الموقف الأميركي من ثورة 30 يونيو تغير من الشيء إلى نقيضه، من الشرق إلى الغرب، المواقف عادة ما تتغير درجة .. درجتين، ولكن أن تتغير 180 درجة ، فإن أمرا جللا قد حدث.
قررت "واشنطن" أن تغير موقفها، بعد أن اكتشفت أن الشعب المصري "مالوش حل" وأن ألعاب الحواة لن تخدع أحفاد الفراعنة، الذين علموا العالم، وأسسوا القيم، واخترعوا على يد "إخناتون" فكرة التوحيد، وسخروا من الطغاة بالنكتة، والطرفة، والأمثولة.
غيرت أميركا موقفها، وذقنا أخيرا حلاوة الانتصار . قشعريرة الإرادة الوطنية التي نسيناها منذ قرار "ناصر" بتأميم القناة، وقرار "السادات" بحرب أكتوبر. شعرنا أخيرا بها بعد أن ماتت لسنوات طويلة في أزمنة القهر، والهزيمة، والاستلاب .
"الوطنية ـ التي أصبحت حبرا على ورق، وشعارا روتينيا فقد معناه اللغوي والانطباعي، حتى الرمزي ـ دبت فيها أخيرا الحياة، وشعرنا من جديد بـ "نشوة الإرادة".
الموقف الأميركي تراوح في البداية بين التردد، والمراوغة، والغضب المكتوم، ومحاولة الاعتراض،.. وإرهاب مصر والتهديد بطرق غير مباشرة بقطع المساعدات، ولكن اكتشفت واشنطن أخيرا أنه من الصعوبة بمكان الوقوف ضد الشعب المصري ، فنفضت يدها من حلفاء اليوم، كما نفضت يديها من حلفاء أمس، وصدقت على ثورة الشعب المصري.
أذعنت الإدارة الأميركية كما توقعتُ لإرادة المصريين، واعترفت أمس على لسان وزير خارجيتها جون كيري بأن "القوات المسلحة المصرية جنبت البلاد حربا أهلية بقرارها التدخل والانحياز لصالح الشعب الذي خرج "ربعه" في 30 يونيو في أكبر حشد بشري عرفته البشرية، ليسقط " الإخوان".
أميركا التي اعتادت على فرض نظرياتها، وسطوتها، ومواقفها على العالم حتى بالقوة العسكرية هاهي تذعن لأول مرة للإرادة المصرية. بعد سنوات طويلة من التبعية، والذل، والقرار السياسي المختطف.
راعي البقر ـ الذي يجيد "لعبة الموت" والذي صورته أفلام هوليوود بطلا أسطوريا يضرب عشرة أشخاص بيد واحدة، وينقذ الكوكب في اللحظة الأخيرة من الكائنات الفضائية الشريرة ـ هاهو يتحول في لحظة إلى إنسان واقعي جدا، ويقر بأنه كان على خطأ، ويعترف بحق الشعب في الثورة على حاكمه، حتى لو جاء عبر "صندوق انتخابي".
قلل سفير أميركي سابق في القاهرة في عهد مبارك من اختلاف الآراء بين الإدارتين المصرية والأميركية، وقال أن النقاش الذي يتم بين البلدين لا يتعدى مرحلة احمرار الوجوه، وإذا سلمنا بصحة الوصف، فإن الخلاف بين مصر وأميركا عقب سقوط الإخوان تعدى احمرار الوجوه إلى الخناقة.
ظهر ذلك في المحاولات الأميركية المستمرة للضغط على القوات المسلحة لمنح الإخوان "فرصة"، ويظهر أيضا في محاولاتها للتدخل في الشأن المصري والعمل على زيادة الاستقطابات في الساحة السياسية، بمحاولة استقطاب السلفيين مرة ، واستقطاب حركة "تمرد" مرة أخرى، ومطالبتها بالإفراج عن "المخلوع 2" مرة ثالثة.
اكتشفت أميركا أنها لا تستطيع أن تجابه المصريين الذين كشروا بسرعة عن أنيابهم،وأطلقوا حملة "تمرد" فيسبوكية لإسقاط أوباما راعي الإخوان "
Tamarrod Is an Egyptian Movement to drop Obama who is the patron of the Muslim Brotherhood
بسرعة امتلأت الصفحات بالصور المنددة بأميركا التي رعت الإخوان، وقدمت إليهم المليارات لتمكينهم من حكم مصر، الأمر الذي استدعى الكونجرس لاستجواب الرئيس، في خطوة يمكن أن تؤدي بالفعل إلى عزله بموجب القانون الأميركي.
فوجئت أميركا بمصر التي كانت توصف دائما بـ "الحليف" تخرج عن طوعها للمرة الثانية، وتنسف بالديناميت سياستها الخارجية، وتجهض مشروعها الاستعماري القديم الذي يعمل لصالح إسرائيل، وفشل جهاز استخباراتها CIA أخطر جهاز استخباراتي في العالم في توقع ماحدث .
واكتشفت واشنطن أن التقارير التي أرسلتها السفيرة الأميركية بالقاهرة آن باترسون لم تكن سوى "خرابيط"، خاصة وأنها توقعت وفق أحدها استمرار الإخوان في الحكم 40 عاما على الأقل، ولكن الشعب المصري حطم لها كل الأحلام، وخرجت الملايين لتؤكد أن لا شيء يقف أمام إرادة شعب.
حتى عندما اقترب طوفان 30 يونيو استهانت "الحيزبون" بالأمر، واجتمعت مع نائب التنظيم العالمي للإخوان خيرت الشاطر رغم عدم وجود أي صفة رسمية له، لبحث سبل مواجهة الاحتجاجات، وطالبت وزير الداخلية بمواجهة المتظاهرين.
في البداية كان الموقف الأميركي مترددا عاكسا للصدمة التي تتعرض لها أكبر قوة في العالم للمرة الثانية في عامين، وهي ترى نظامها الجديد في مصر يتهاوى كبنيان من الرمل، كانت صدمتها مثل صدمة التاجر الذي وضع كل رأسماله في مشروع ، وفجأة ضرب زلزال المنطقة، فتحول مشروعه إلى كومة من الركام.
رغم سعادتي بتغير موقف واشنطن، إلا أن الانتهازية الأميركية يمكن أن تفعل أي شيء من أجل مصالحها في المنطقة، وتأسيس نظام وطني حر في هذه المنطقة من العالم يتعارض مع المصالح الأمبريالية. لذلك ستواصل أميركا البحث عن بديل جديد للإخوان يقوم بنفس الدور، ولكنها ستجد أمامها في كل مرة خصم جديد عنيد هو "لعنة الفراعنة".