قررت أن أعلن نفسي دولة حرة مستقلة، دولة مترامية الأطراف عاصمتها الرأس، وحدودها الجلد، والأيدي جيش الدفاع، والقلب هو الخزانة العامة التي تمول الحب لكل الناس، والعقل هو وزارة الإعلام، أنا فخامة الرئيس والسلطان المعظم، وجلالة الملك المفدى، أنا الحكومة والمعارضة، أنا دولة متعددة الأعراق ينعم فيها الجميع بالحرية والكرامة، والعيش الكريم.
لا يوجد في بلدي تعصب أو طائفية أو مذهبية، توجد كرات دم حمراء وبيضاء وخضراء وزرقاء، توجد كرات ومكعبات ومثلثات، الكل يتمتع بالعيش المشترك، على ضفاف شراييني الممتدة يعيش الفقراء والبسطاء والمتعبون، يمارسون الصيد والزراعة، يحبون ويتزوجون، ويحققون الحلم الجميل.
مادمت لم تتمكن من البوح في العلن لا مفر من أن تبوح في السر، مادمت قد عجزت عن الصراخ في البرية، لا مفر من أن تصرخ في الداخل، طالما لم تحصل على حقك وحريتك في المجتمع الكبير، وعجزت عن التحليق دون خوف من طلقات الصياد. لا مفر من أن تحلق داخلك، وتستمتع بشيزوفرينيا الحرية حتى لو كان ذلك في صمت، يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
لقد ضاق الحصار وضاق، حتى وصل إلى جسدك. أنت الآن وسط دائرة من جنود مكافحة الشغب الذين يحملون في أياديهم الدروع الواقية والهراوات. ليس بوسعك حتى أن تهرش رأسك، الجميع يعد عليك أنفاسك ونظراتك، .. حركة واحدة وتنهال عليك العصي من كل اتجاه.
في دولتي الخاصة لا يوجد رقيب، ولا سجون، أو أسوار، أو بطاقات شخصية أو تصاريح ووثائق، لقد منحت الحرية لشعبي، كل يحكم نفسه بنفسه، واكتفيت بنشر المسؤولية الاجتماعية، لقد اهتممت بإحياء الضمير، وهو الكلمة السحرية الكفيلة بتوجيه المواطن، فيفعل الصواب، ويتجنب الخطأ.
ما أجمل أن تكون حاكما لدولة حدودها أنت، لا يكدر فيها صفوك أحد، دولة على مزاجك، ولكن هل سيحقق ذلك السعادة لك؟ ، وهل ستتمكن من إنشاء المدينة الفاضلة التي تحدث عنها أفلاطون؟.
التحديات لاشك كثيرة، فحتى داخل الجسد أيها التعيس ستجد الخونة والمجرمين والنصابين، ستجد من يتآمر عليك، فالمجرمون لم يكتفوا بإعلان الحرب عليك في الخارج، ولكنهم تآمروا عليك حتى في الداخل.
الأدوية الفاسدة تتسلل إلى دمك، ومافيا الدواء تتحكم في جسدك، لقد أصبحت لا تستغني عن الأدوية كما لا يستغني المدمن عن المخدرات، .. والأغذية المسرطنة تدخل رغما عنك، عن طريق الصفقات الفاسدة، والوجبات الجاهزة تنشر المرض داخلك، وترفع الكوليسترول القاتل الذي يخنق شرايينك.
صوتك الانتخابي تحدده الجزرة ، .. تجار الأعضاء يتسللون إلى داخلك، ويعاينون البضاعة، ويختارون ما يشاؤون من قطع الغيار البشرية، كلى .. طحال .. بنكرياس، وتتم العملية رغما عنك، فتدخل إحدى المستشفيات لتجري عملية استئصال اللوزتين، فتخرج بدون كلى أو حتى قلب، حتى دمك الثروة المائية داخلك ستجد من يسرقه خلال التحاليل الروتينية، وحملات التبرع بالدم، ويبيعه للمستشفيات الـ 10 نجوم.
الإشعاعات الضارة الصادرة من التلفاز، والهاتف الجوال، وأبراج الاتصالات، ووسائل التقنية المختلفة التي تملأ المكان تخترق جسدك، وتتحكم في مشاعرك، وتترك وراءها الخراب.
حتى جسدك لن يكون مستقلا في عصر استعباد الأجساد والأرواح، عصر يعتبر الشعوب قطعانا من الماشية يتم تسمينها ليتم نحرها في عيد الأضحى.
التعددية السياسية التي تؤمن بها وحدك في خطر، والحرية التي منحتها عن طيب خاطر لشعبك الداخلي مهددة، حيث يتمكن المخبرون ـ وبالقانون ـ من التسلل داخل دمك، ويلقون القبض على عقلك بتهمة التفكير، أو المعارضة، أو التآمر على أمن البلاد.
جسدك هو الشيء الوحيد الذي تملكه، هو رأس مالك، فليس لديك بيت، أو عمل ثابت أو مؤقت، أو حتى بالحصة، لا تملك عنزة أو كشك، أو رصيد في دفتر التوفير، لديك فقط جسد منحه الله لك، ولكن حتى هذا الجسد في الواقع ليس ملكا لك. حيث يمكن أن يتحطم كالمنزل المخالف بفعل بلدوزر البلدية، كما يحدث في فلسطين والعراق وأفغانستان والدول الدكتاتورية، حيث يستخدم التعذيب بطريقة ممنهجة لاستنطاق المواطنين، وردع المعارضين.
إذا دخل الأعداء بلدك ورضيت، سيدخلون مدينتك، وإذا رضيت سيستبيحون بيتك، وإذا لم تقاوم سيقتحمون جسدك، ويسبحون في دمائك. وإذا حدث هذا، فأقم جنازتك، واقرأ الفاتحة على روحك.