شهدت الساحة مؤخرا إغلاق عدة صحف ورقية، وقد يرى البعض أن ذلك حدث طبيعي في ظل تقدم الاعلام الألكتروني ، الذي يتمتع بمزايا أكبر كقلة التكلفة، وإمكانية التحديث، وسرعة الانتشار، وبالتالي قوة التأثير، ولكن الواقع يؤكد أيضا أن للصحف الورقية قارئها المستديم، والذي يعتبر صحيفته المفضلة من طقوسه الخاصة.
علل البعض المشكلة بتراجع الإعلانات بعد انصراف المعلن العربي للأداة الراجحة وهي الإنترنت ، والنفقات التشغيلية العالية للصحف الورقية والتي تستلزم الطباعة والنقل والتوزيع، ولكن إذا سلمنا بصحة هذه القراءات ، بماذا نفسر إغلاق مواقع ألكترونية ، وهي الظاهرة التي بدأت تطل برأسها مؤخرا ؟.
كيف يمكن لصحيفة ألكترونية أن تتوقف، وقد توفرت لها ـ وفق المنظرين ـ مزايا النشر الإلكتروني من الانتشار الواسع وقوة التأثير، والأهم رخص التكلفة، فلا يمكن أن نقارن تكلفة صحيفة ورقية تستلزم مراحل عديدة مكلفة، والصحيفة الألكترونية التي لا تحتاج إلا لدومين، وشركة استضافة، وجهد صحفي خلاق .
توقف الصحف الألكترونية يؤكد أن المشكلة ليست فقط في التكلفة العالية، وليست فقط في ضعف الإعلانات ، وكذلك ليس فقط بسبب تقدم الاعلام الإلكتروني المنافس وانصراف الناس إلى الإنترنت.
تعثر الصحف الألكترونية ، ومن قبل التقليدية يؤكد أن الخلل في الانسان نفسه ، الذي فشل في إدارة النوع القديم من الصحافة ، وفشل أيضا في النوع الحديث منها .
توقف الصحف الورقية يرجع في الأساس إلى مجموعة من العوامل ، هي : الهيكل الإداري الذي يصلح لإدارة مدرسة أو شركة، وضعف الإبداع، وافتقاد الحرية. أما توقف الألكترونية فسببه الرئيسي في رأيي هو إدارة الصحيفة الألكترونية بنفس عقلية الصحف الورقية، وإذا أردت الدليل على ذلك انظر للصحف الألكترونية التي أصدرتها مؤسسات صحفية ورقية، ستجدها تجتر نفس الهيكل الإداري العقيم الذي كان سببا في انهيار الصحف التقليدية.
الإعلام اختلف، وإدارة صحيفة تمشي على الأرض تختلف عن صحيفة تحلق في الفضاء، والقيود التي قيدت الصحافة الورقية طوال نصف قرن لا يمكن أن تصلح للصحافة الألكترونية التي أهم ميزاتها أنها بلا قواعد.
دعيت منذ شهور إلى العاصمة التايوانية تايبيه ، وكان مدعوا معي شاب مصري يصدر صحيفة ألكترونية تقنية تحقق نسب قراءة عالية، وليس ذلك فقط، ولكنها كانت مليئة بالإعلانات ، من مصر والخليج ، بل وتايوان ، فكيف لصحيفة بسيطة أصدرها شاب هاوي أن تنجح، بينما صحيفة ألكترونية أخرى تصدر عن مؤسسة صحفية عريقة، وتوفرت لها الملايين تتعثر؟.
أيا كانت الأسباب والدوافع ، إغلاق صحيفة أيا كانت ورقية أم ألكترونية خبر يستدعي الحزن ، لأن توقف الصحيفة ـ أيا كان توجهها ـ يعني أن منبرا للرأي قد توقف ، وأداة للتنوير تعطلت، والنتائج لاشك كارثية .
مشكلة الصحافة ككل بشقيها الورقي والألكتروني وبالأشكال الجديدة المدهشة التي ستظهر في المستقبل القريب ، ليست مشكلة تمويل، ولكنها مشكلة إبداع .