في الوقت الذي لم يجد فيه أنصار حازم صلاح أبو اسماعيل إلا محاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي كوسيلة للتعبير عن اعتراضهم على "الإعلام"، وما رافق ذلك من أشياء "تكسف" مثل سرقة عجل كان يستخدم في التصوير بالمدينة، وذبحه، وشيه، وبناء مراحيض "بلدي" في الحدائق، .. كان شباب المعارضة المصرية يبدعون في تقديم أشكال جديدة للرفض، وهي أساليب تؤكد أحد المزايا المهمة لـ "ثورة 25 يناير 2011" وهي أنها فجرت عنصرا مهما في نجاح أي عمل، وأي ثورة، وهو "الابتكار".
منذ أيام أعلن عدد من النشطاء عن تنظيم "إنتحار رمزي" في السابعة من مساء الجمعة المقبلة عند كوبري قصر النيل بالقاهرة، بإلقاء أنفسهم فى النيل كتعبير رمزى عن رفضهم لحكم المرشد وجماعته، وتنديدا بالوضع المعيشي الصعب، ورغم أنني لست مع هذه الصورة الخطرة في التعبير عن الرفض . خاصة لمن لا يجيد السباحة، إلا أننا لا يمكن إلا أن نرفع "الطاقية" إعجابا بروح الابتكار التي تتسم بها الثورة المصرية، والتي تقدم لنا كل فترة أساليب مدهشة للتعبير عن الرأي، سواء كانت في جزءها الأول ضد نظام مبارك، أو في جزءها الثاني ضد نظام مرسي.
هناك دول يكتفي المعارضون بها بإلقاء البيض الفاسد للتعبير عن رفضهم، ولكن في دول أخرى يلجأ البعض إلى أساليب دموية للتعبير عن "الرفض" كما فعل التونسي محمد البوعزيزي عندما أحرق نفسه اعتراضا على صفع الشرطية له، ومصادرة عربته، وكما يحدث كل يوم في التبت وغيرها من مناطق العالم، وهؤلاء الذين يحرقون أنفسهم يريدون لفت الانتباه ، حتى لو كلفهم ذلك حياتهم، ولكن الذي لا يعلمه هؤلاء أن هناك أساليب أخرى مبتكرة أكثر أمنا ولفتا للانتباه.
أبهر الشعب المصري العالم بثورته السلمية التي تمكنت من خلع نظام دكتاتوري جثم على أنفاس الوطن 30 عاما، وأثارت اللافتات التي رفعها الرجال والسيدات، بل والأطفال بتعليقاتها الساخرة الإعجاب، حيث أكدت روح الفكاهة التي تميز بها الشعب المصري حتى في أحلك الظروف.
هذه التعبيرات بتراكيبها العفوية الساخرة المبتكرة تحتاج إلى دراسة بحثية للرصد، والتوثيق، والتحليل، وتقصي مدلولاتها السياسية والاجتماعية، واستخدامها في عمل بيان إحصائي لتطور الوعي السياسي لدى المصريين بعد الثورة، وهي تصلح لتكون مرجعا للثورات الأخرى، وهو بالفعل ما حدث في ثورات اليمن، وليبيا، وأخيرا تركيا، كما تم استلهامها في احتجاجات عالمية في أميركا وأسبانيا، وفلسطين، وإسرائيل.
وعلى مدى أيام وشهور وسنوات الثورة المصرية الصعبة والدامية، والمتفائلة رغم ذلك، قدم الثوار في مصر أساليب عديدة مبتكرة للتعبير عن رفض الإعلان الدستوري المكمل الذي أصدره الرئيس، ومنح به لنفسه سلطات فرعونية، وتكوين جمعية لإعداد الدستور يهيمن عليها تيار الاسلام السياسي، وإهمال التيارات الأخرى المكونة للشعب، وفرض دستور لا يرضى به الشعب، وسرقة الثورة، وحكم المرشد الذي يحمل أجندة غير وطنية، ويؤسس لولاية فقيه جديدة على غرار ولاية الشيعة، والأخونة التي تدور على قدم وساق في مؤسسات الدولة، والتي تهدف لتمكين حكم الإخوان للأبد، والتفريط في الأمن القومي الذي ظهر في سيناء والحدود مع غزة، وقناة السويس، وأخيرا نهر النيل.
في كل هذه المواقف المعارضة كان العقل المصري دائما لديه الجديد في التعبير عن رأيه ..، ومن أساليبه المبتكرة حملة "كفاية"، و"مصر كبيرة عليك"، وتظاهر عدد من الناشطات والسيدات وهن يحملن أكفانهن، وقيام بعضهن بقص شعورهن تأسيا ببنت إخناتون التي قامت بنفس الفعل اعتراضا على ظلم الكهنة لأبيها ، وحملة "إذا كنت رافض الإخوان .. إضرب كلاكس"، وأخيرا حركة "تمرد" التي تسعى لجمع توقيعات 15 مليونا من المواطنين لسحب الثقة من نظام مرسي، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
"الحملة" التي تعتزم التظاهر في 30 من هذا الشهر عند قصر الاتحادية ستستلهم عالم كرة القدم، وتحمل معها "صفارات" وبطاقات حمراء، وتوجيه إنذار للرئيس بالطرد من الملعب في صورة مبتكرة أخرى للتعبير عن الرأي السياسي.
وفي المعسكر المقابل ظهر معسكر الإخوان، ومن تبقى من أنصارهم من تيارات الاسلام السياسي كالتلميذ البليد العاجز عن ابتكار أساليب للتعبير عن رأيه، ولعل الدليل على ذلك تقليدهم لحركة "تمرد" التي ابتكرتها المعارضة، حيث قاموا باستنساخ الفكرة، بل وسجع الاسم، وأعلنوا عن حركة "تجرد" التي تجمع تواقيع لتأييد مرسي.
الموضوع خطير، ولايمكن حصره فقط في المقارنة بين الحكومة والمعارضة في "الإبداع"، ولكن ذلك يعطي لك مؤشرات عن قوة الطرفين .. على الأرض من ناحية، وعلى صعيد الفكر والابداع من ناحية أخرى، وهي مؤشرات سيكون لها دورها في تحديد النتيجة النهائية، الأمر أشبه بامتحان "القدرات" الذي يكشف عن التلميذ الموهوب من العادي، وهو شرط ضروري لدخول الكليات.
الموضوع أيضا له بعد نفسي، فالذي آمن بقضيته، سوف يبدع في التعبير عنها، كالعاشق الذي يؤلف لحبيبته "أحلى الكلام"، والكاذب الذي ينكشف من أول كلمة، ويتلعثم، ويفشل في تبرير وجوده في هذا "المكان".
وهذا الواقع يؤكد من ناحية أخرى أن "الإخوان" الذين يعتمدون على مبدأ أصيل وثابت، وهو "السمع والطاعة" غير قادرين على "الابداع" لأن العضو بها وعلى طريقة "لا تناقش ولا تجادل ياأخ علي" يقتصر دوره في انتظار التكليف لينفذ دون تفكير أو مناقشة.
وحتى الآن ثوار مصر كالتلميذ المتفوق الواثق الذي استعد للاختبار جيدا، ليس ذلك فقط، بل راح يبتكر إجابات مبهرة تؤكد أنه ذاكر جيدا، وفي المقابل أنصار النظام أشبه بالتلميذ الخائب الذي ينظر يمنة ويسرة في قاعة الاختبار، ويتلصص على زميله، ليقتنص منه كلمة يكتبها في الورقة الفارغة.