القاهرة : دراسات .
أعاق تأخر التأشيرة مشاركة الكاتب الصحفي أحمد السيد النجار في منتدى التعاون الأورومتوسطي في برلين ، لذلك فضل النجار نشر الكلمة التي كان سيلقيها في المنتدى على صفحته الشخصية في "فيسبوك".
فيما يلي نص الكلمة، وهي بعنوان " إمكانية تطوير اقتصادات تنافسية في القارة الإفريقية والمصلحة المشتركة مع أوروبا وألمانيا".
إمكانية تطوير اقتصادات تنافسية في القارة الإفريقية والمصلحة المشتركة مع أوروبا وألمانيا
أحمد السيد النجار
عندما تلتحق أي دولة أو مجموعة دول بركب التطور والتحديث الاقتصادي فإنها تضيف أسواق تفاعلية جديدة للاقتصاد الدولي، بما يؤدي لتوسيع الفضاء الاقتصادي العالمي وإتاحة فرص جديدة أمام الشركات القائمة في كافة المجالات على قاعدة تبادل المصالح. كما تفتح الباب لظهور شركات جديدة في الدول الناهضة، وشراكات تعاونية جديدة تجمعها مع شركات الدول الأسبق في التطور والتحديث الاقتصادي. كما تتمكن من خلق أعداد كبيرة من فرص العمل التي تؤدي لتمكين البشر من كسب عيشهم بكرامة في بلدانهم، بما يقلل من الهجرات غير القانونية بحثا عن فرص للعمل والعيش الكريم طالما أنها متوفرة في الأوطان الأصلية.
تخفيض بيانات البطالة
وفقا للبيانات الرسمية عن معدلات البطالة في إفريقيا رغم تحفظي عليها لتعمدها تخفيضها لإظهار الأداء الحكومي أفضل مما هو في الواقع، بلغ عدد العاطلين نحو 8,7 مليون عاطل في دول شمال إفريقيا، وبلغ معدل البطالة نحو 11,7% من قوة العمل. وبلغ عدد العاطلين في دول إفريقيا جنوب الصحراء نحو 29,1 مليون عاطل، وبلغ معدل البطالة نحو 7,2% من قوة العمل(International Labor Organization, World Employment Social Outlook, Trends 2018, p 64 ).
وهؤلاء العاطلون هم عالة على أسرهم يرفعون معدلات الإعالة والفقر فيها. كما أنهم يشكلون أرضا خصبة لنمو التطرف والعنف الجنائي والسياسي في الدول التي تهمشهم ولا تمكنهم من كسب عيشهم بكرامة. ومن المؤكد أن أي خطة لللنهوض والتحديث الاقتصادي سوف تساعد على الاستيعاب الاقتصادي للعاطلين وتحولهم من قوة مهمشة تنطوي على مخاطر جنائية وسياسية إلى قوة بناء وتطوير للاقتصاد والمجتمع.
كما يعني التحديث والتطور الاقتصادي المرتبط بمنظومة قيمية تنويرية، تقليل نشاطات الاقتصاد الأسود عموما، طالما أن العمل الاقتصادي القانوني متاح ويحقق أرباحا معتدلة وبصورة تحفظ الكرامة والمكانة الاجتماعية. كما أنه يتضمن نشوء موجات من الأعمال الصغيرة والتعاونية تفتح الأفق أمام بناء أجيال جديدة من رجال الأعمال تنهض أعمالها على العلم والعمل وليس على المحسوبية والفساد اللذين تتعمق جذورهما في الكثير من البلدان النامية والأقل نموا التي تسيطر عليها النظم الاستبدادية الفاسدة والتابعة، بما يؤدي لتطور نخبة الأعمال بصورة إيجابية.
مصلحة مشتركة
ومن هذا المنطلق توجد مصلحة مشتركة من تطوير التعاون الإفريقي- الأوروبي لدفع التطور والتحديث الاقتصادي في إفريقيا بصورة تجعل اقتصادات إفريقيا قادرة على المنافسة والاندماج العميق في الاقتصاد الدولي على قاعدة التبادل العادل للمصالح.
وتعتبر القارة الإفريقية مع بعض دول جنوب وغرب آسيا هي المناطق البكر الباقية في العالم التي لم تتشبع استثماريا ولم يتم توظيف الطاقات الكامنة لديها من موارد طبيعية وقوة عمل. وبالتالي فإنها تشكل فرصة كبيرة للتوظيف عالي الربحية لرؤوس الأموال العالمية.
وتشغل دول شمال إفريقيا مكانة خاصة في هذا الشأن حيث تتوفر البنية الاقتصادية والأساسية وقوة العمل الضخمة بكل مستوياتها التعليمية والمهارية وبمستويات أجور تقل عن عشر نظيرتها في جنوب أوروبا، وتقل كثيرا عن الأجور في الصين حاليا. كما أنها حققت مستويات معقولة من التطور الاقتصادي تؤهلها لجذب واستيعاب أحجام ضخمة من الاستثمارات وإقامة تجارة سلعية وخدمية قابلة للتوسع السريع مع أوروبا.
كما أن قربها الجغرافي من أوروبا يعطي ميزة تنافسية خاصة للتجارة السلعية والخدمية ولحركة البشر بين الطرفين تتعلق بانخفاض نفقات النقل والتأمين بينهما. وهذه الميزة التنافسية الجغرافية تنسحب على إفريقيا بأسرها.
ميزات تنافسية
وتملك إفريقيا ميزات تنافسية أخرى تتمثل في رخص منتجاتها مقدرة بالعملات الحرة الرئيسية نظرا لأن عملات دول القارة عموما مقدرة بأقل من قوتها الشرائية مقارنة بالقوة الشرائية للعملات الرئيسية في بلدانها. ويتجلى ذلك بوضوح في أن قيمة الناتج القومي لدول إفريقيا جنوب الصحراء بلغت نحو 1639 مليار دولار عام 2015 طبقا لأسعار الصرف السائدة، بينما بلغت وفقا لتعادل القوى الشرائية نحو 3573 مليار دولار في العام نفسه(World Bank, World Development Indicators 2017, p. 14.). وهذا يعني أن الدولار الأمريكي مقدر بأكثر من ضعف قيمته الحقيقية مقابل العملات الإفريقية لدول جنوب الصحراء، أو بالضبط بـ 2,2 مرة قدر قيمته الحقيقية.
ويتكرر الأمر نفسه بصورة أعمق في دول شمال إفريقيا خاصة بعد تعويم مصر كبرى دول الشمال الإفريقي لعملتها التي تراجعت بأكثر من 50% منذ نوفمبر 2016. وتشير قاعدة بيانات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الذي يصدره صندوق النقد الدولي (World Economic Outlook Database, October 2017) إلى أن الناتج المحلي الإجمالي المصري المقدر بالدولار وفقا لتعادل القوى الشرائية يبلغ 1199 مليار دولار عام 2017، بينما يشير مشروع الموازنة العامة للدولة المصرية للعام 2017/2018 إلى أن الناتج المحلي الإجمالي المصري سيبلغ 4107 مليار جنيه، أي نحو 230 مليار دولار فقط وفقا لسعر الصرف الحالي.
وهذا يعني أن الدولار مقدر تجاه الجنيه المصري بنحو 5,2 مرة قدر قيمته الحقيقية القائمة على تعادل القدرات الشرائية. وهذا يعني رخص الأصول والسلع والخدمات المصرية لمن يملكون العملات الأجنبية من المستثمرين والسياح والمستوردين الأجانب.
وفي نفس السياق بلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي لمصر والجزائر والمغرب وتونس وليبيا مجتمعين نحو 592 مليار دولار عام 2017 طبقا لأسعار الصرف السائدة، بينما بلغت قيمتها وفقا لتعادل القوى الشرائية نحو 2484 مليار دولار طبقا لقاعدة بيانات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي. أي أن الدولار مقدر تجاه عملات تلك الدول بنحو 4,2 مرة قدر قيمته الشرائية.
ورغم أن تخفيض عملات الدول النامية عن قيمتها الحقيقية القائمة على توازن القدرات الشرائية هو إحدى آليات استغلال دول العملات الحرة الرئيسية للدول النامية عبر توظيف تنافس الأخيرة على الدخول لأسواق البلدان المتقدمة، إلا أن ذلك يعني ارتفاع القدرات التنافسية لصادرات إفريقيا من السلع والخدمات وبخاصة دول شمال إفريقيا.
القدرة على المنافسة
وبالتالي فإن تأسيس أية استثمارات أوروبية في إفريقيا يعني أن إنتاج تلك الاستثمارات سيكون قادرا على المنافسة في الأسواق الدولية فضلا عن الأسواق المحلية للقارة الإفريقية بعدد سكانها البالغ نحو 1200 مليون نسمة حاليا والذي يعادل نحو 87% من عدد سكان الصين. ورغم ذلك فإن إجمالي ما تلقته إفريقيا من استثمارات أجنبية مباشرة بلغ 59,4 مليار دولار عام 2016، مقارنة بنحو 133,7 مليار دولار تلقتها الصين، ونحو 102,1 مليار دولار تلقاها إقليم هونج كونج الصيني.
وبلغ إجمالي الاستثمارات الأجنبية المتراكمة في إفريقيا بأسرها حتى نهاية عام 2016 نحو 836,6 مليار دولار، منها 136,8 مليار دولار في جمهورية جنوب إفريقيا، ونحو 102,3 مليار دولار في مصر، ونحو 94 مليار دولار في نيجيريا، ونحو 54,8 مليار دولار في المغرب، ونحو 49,6 مليار دولار في أنجولا، ونحو 29,3 مليار دولار في تونس، بينما بلغت قيمة الاستثمارات الأجنبية المتراكمة في الصين نحو 1354,4 مليار دولار يُضاف إليها نحو 1590 مليار دولار في الإقليم الصيني هونج كونج (UN, UNCTAD, World Investment Report 2017, p.222, 223, 226, 227.).
قاعدة من المواد الخام
وتتركز الغالبية الساحقة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تتدفق لإفريقيا في القطاعات الأولية وبخاصة في قطاعات النفط والغاز والتعدين، أي أنها لم تسجل دخولا واسع النطاق لقطاع الصناعة التحويلية الذي يمكنه أن يقود النهوض والتحديث في الاقتصادات الإفريقية.
وتتوفر لإفريقيا قاعدة هائلة من المواد الخام المعدنية والمحجرية والزراعية التي يمكن أن تشكل قاعدة لعدد كبير من الصناعات التحويلية ذات القدرة التنافسية العالية المستمدة من رخص الخامات، وانخفاض الأجور، والقرب الجغرافي من الأسواق الكبرى بما يقلل نفقات النقل والتأمين على حركة التجارة وبخاصة مع أوروبا.
كما تتمتع غالبية دول القارة الإفريقية بعلاقات منفتحة على العالم وعضوية في المؤسسات المالية والتجارية الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية. وهذا الانفتاح يسهل حركة الاستيراد والتصدير اللازمة لتنمية الصناعة التحويلية وتصريف منتجاتها.
كما أن معدلات الادخار المحلي في إفريقيا متدنية عموما باستثناء الدول المصدرة للنفط في سنوات ارتفاع أسعاره، وهو ما يجعل دول القارة متعطشة لتدفقات الاستثمارات الأجنبية، ولديها معدلات استهلاك عالية تتجسد في طلب فعال مشجع للاستثمارات الجديدة. وقد بلغ إجمالي الادخار المحلي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في إفريقيا جنوب الصحراء نحو 13,6% عام 2015.
وبلغ صافي الادخار كنسبة من الدخل القومي نحو -3,9%. أي أن الادخار المتحقق يعود في مجمله للشركات الأجنبية العاملة هناك. أما في دول شمال إفريقيا فقد بلغ إجمالي الادخار كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2015 نحو 36,8%، 28,2%، 12%، 9,6% في كل من الجزائر والمغرب وتونس ومصر بالترتيب. وبلغ صافي الادخار كنسبة من الدخل القومي الإجمالي نحو 24,7%، 21,4%، - 4,6%، 3,3% في الدول المذكورة بالترتيب.(World Bank, World Development Indicators 2017, p. 68-72.)
القلب الاقتصادي لأوروبا
وبالمقابل تشغل ألمانيا موضع القلب الاقتصادي لأوروبا بناتجها الضخم الأكبر عن كل ما عداه في أوروبا شرقا وغربا والذي بلغ 3740 مليار دولار عام 2015 وفقا لسعر الصرف السائد، ونحو 4009 مليار دولار طبقا لتعادل القوى الشرائية(World Bank, World Development Indicators 2017, p.12). كما أنها تشغل المرتبة الثالثة عالميا في مجال التجارة بصادرات سلعية قيمتها 1340 مليار دولار وواردات قيمتها 1055 مليار دولار، وصادرات خدمية قيمتها 268 مليار دولار وواردات خدمية قيمتها 311 مليار دولار عام 2016. (World Trade Organization, World Trade Statistical Review 2017, p. 102, 104)
كما بلغت قيمة الاستثمارات المباشرة الخارجة من ألمانيا نحو 99,5، 93,3، 34,6 مليار دولار في الأعوام 2014، 2015، 2016 بالترتيب. وبلغت قيمة استثمارتها المتراكمة في الخارج حتى عام 2016 نحو 1365,4 مليار دولار وفقا لتقرير الاستثمار العالمي (2017).
ورغم هذه الأحجام الكبيرة من الإستثمارات المباشرة التي تخرج من ألمانيا، فإن نصيب إفريقيا منها لا يتناسب مع قوة الاقتصاد الألماني العملاق، ولا مع الطاقة الاستيعابية الاستثمارية الكبيرة في دول شمال إفريقيا بصفة خاصة.
وعلى سبيل المثال جاءت ألمانيا في المرتبة الـ 11 بين الدول التي ضخت استثمارات مباشرة لمصر في العام المالي 2016/2017، حيث بلغت قيمة إجمالي التدفقات الاستثمارية المباشرة منها إلى مصر نحو 147,6 مليون دولار، مقارنة بنحو 5501,6 مليون دولار من بريطانيا، ونحو 1988,1 مليون دولار من بلجيكا، ونحو 836,9 مليون دولار من الإمارات، ونحو 535,8 مليون دولار من فرنسا، ونحو 343,7 مليون دولار من السعودية، ونحو 219 مليون دولار من هولندا.(البنك المركزي المصري، النشرة الإحصائية الشهرية نوفمبر 2017، صـ 94)
تطوير اقتصادات تنافسية
وإجمالا يمكن القول أن تطوير اقتصادات تنافسية في إفريقيا قادرة على المنافسة الفعالة في الأسواق الدولية هو أمر ممكن تماما، وبخاصة في دول الشمال الإفريقي. ويستند هذا التقدير على وفرة الخامات المعدنية والمحجرية والزراعية الرخيصة، ووفرة قوة العمل منخفضة الأجر، وانفتاح اقتصادات القارة على العالم، وانخفاض أسعار عملات دولها بصورة تجعل الأصول والسلع والخدمات فيها منخفضة السعر بشدة لدى تقويمها بالعملات الحرة الرئيسية.
كما تتمركز القارة في وسط العالم بما يخفض نفقات النقل والتأمين على تجارتها مع أي منطقة في العالم وبخاصة أوروبا. أما إجراءات تأسيس الأعمال والتخارج منها فقد تحسنت كثيرا ويجب العمل من داخل تلك الأسواق على المزيد من تحسينها.
مكافحة الفساد
أما وجود الفساد بما يعنيه من مدفوعات غير مرئية تضيف المزيد من الأعباء على أي نشاط اقتصادي، فإن مكافحته بصورة جوهرية تتم من خلال تطوير النظم الإدارية وجعل إجراءات تأسيس الأعمال واستصدار الموافقات والتراخيص تتم إلكترونيا دون لقاءات مباشرة مع موظفي الجهاز الإداري للدولة في البلدان التي ينتشر فيها الفساد.
كما ترتبط مكافحة الفساد بصورة جذرية بوجود نظم ديموقراطية حقيقية توفر إمكانية الرقابة الرسمية المستقلة، والرقابة الشعبية الفعالة على التصرفات في المال العام وفي استخدام سلطات إصدار الموافقات والتراخيص بما يمنع ويكافح الفساد بصورة فعالة.
وهذه التطويرات الإدارية والسياسية تتطلب تكاتفا محليا ودوليا من كل المؤمنين بالتنمية والشفافية والنزاهة لتطوير النظم الإدارية ومقرطة النظم السياسية في بلدان القارة الإفريقية.