تحدثنا كثيرا عن دور القدوة في بناء المجتمع، وأطلقنا النظريات تلو الأخرى حول التأثر ، وكيف يتعلم الطفل بالتقليد ثم المحاكاة ، ولكن المشكلة أننا لم نقدم القدوة الصحيحة التي يقتدى بها الأبناء ، وإن تم ذلك تم بدوافع عاطفية ونفسية وربما عقائدية روحية بعيدة عن الواقع.
لا أرفض أن تكون القدوة تاريخية، فنحن بحاجة لهؤلاء العظام الذين قدموا لنا الرسالات وشيدوا الحضارات، ولكن ما أرفضه احتكار القدوة ، وعزلها في إطارات وجزر منعزلة .
تلاعبنا بمفهوم القدوة، فعلى الصعيد الزمني تمسكنا بالقدوة الراحلة، رغم أن الزمن عنصر رئيسي في تكوين القدوة، فأفقدنا بذلك فعل الاقتداء أهم عناصره وهو الواقعية، فصرنا نقتدي في كثير من الأحيان بشخصيات أسطورية صعبة التكرار، بينما القدوة الحقيقية المؤثرة حية معاصرة تجربتها قابلة للتطبيق .
وعلى الصعيد الموضوعي كل حدد قدوته وفق بيئته الاجتماعية، وثقافته الخاصة التي قد تكون صحيحة، وقد تكون خاطئة، باختصار حددنا القدوة بالمحرك الأساسي للشخصية العربية وهو العنصرية، لا توجد معايير محددة للشخص الذي نقتدي به، كل يحدد وفق مزاجه، وكانت الشهرة هي العنصر الأساس، وتلك هي المشكلة.
العنصرية هي التي تحدد طعامنا وعاداتنا ، وملابسنا، والبرامج التلفزيونية التي نشاهدها ، والتخصص الدراسي، بل والزوجة التي نختارها ، وهي المعيار الذي يحدد الصواب والخطأ ، وهي بالتالي التي تحدد القدوة التي نقتدي بها ،، فكانت النتيجة مؤلمة، فقد وجدنا العديد من الشباب الذي يقتدى بنماذج مشوهة، وبالتدريج ظهرت لنا أجيال تقتدي بنماذج سلبية ، وهو ما أدى في النهاية إلى انحدار المجتمع .
يجب أن نحرر مفهوم القدوة من الإطار العنصري والمناطقي والمذهبي والمعتقدي الضيق، إلى الفضاء الإنساني الكبير ، لنقتدى بكل من قدم فكرة أو إنجاز أو عمل يفيد البشرية .
المدخلات هي التي تحدد المخرجات ، فلو اقتدينا ـ مع احترامي لهم ـ بالفنانين والمذيعين ولاعبي الكرة، سنخرج أجيالا من الفنانين والمذيعين ولاعبي الكرة، ولو اقتدينا بالنابهين والمخترعين والعلماء ، سنقدم جيلا من الناجحين والنابهين والمخترعين والعلماء.
أتذكر كتاب "ياولدي هذا عمك جمال" الذي ألفه الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وقدم فيه لولده الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كقدوة ومثل، ولا أتحفظ على اختيار جمال عبدالناصر كقدوة ، ولكن.
أتمنى أن نتوسع في مفهوم القدوة ، فنقتدي بشخصيات واقعية حية ، مثل بيل جيتس الذي بنى إمبراطورية ماكروسوفت، وخصص ثروته لدعم المجتمعات الفقيرة، ومارك زوكربيرج الذي أسس أكبر شبكة للتواصل الاجتماعي جعلت العالم أقرب، وتبرع بثروته للأعمال الخيرية، ويقود مشروعا فريدا للقضاء على الأمراض ، وإيلون ماسك الذي بدأ مؤخرا مشروعه الرائد للسكن في الفضاء .