هل التخلف مرض وراثي يصيب الإنسان، ويتم توارثه عبر الأجيال، ليصبح لدينا في النهاية بلد متخلف، وأمة متخلفة؟، أم أن التخلف عرض اقتصادي واجتماعي مكتسب تتداخل في مسبباته عوامل مختلفة؟، أم ترى أنه آفة تصيب المحصول فجأة، ومن ثم تنتشر بالعدوى فتصيب الحقول بالخراب؟.
المتتبع لتاريخ الدول المتخلفة سيكتشف أن هناك دولا "بطبيعتها" متخلفة منذ نشأتها، ورغم مرور السنوات الطويلة، مازالت مستسلمة لأخطبوط التخلف الذي يحكم قبضته عليها، والأمثلة كثيرة لدينا، ويطلق العالم على هذه الدول لفظة مؤدبة قليلا وهي "دول العالم الثالث"، أو "الدول النامية"، وهما تشبيهان غير دقيقين، لأن العالم واحد، ولا يمكن بالوضع الجغرافي الدولي المتشابك، خص التخلف بمنطقة جغرافية معينة.
هناك دول كانت ضمن أعداد الدول المتخلفة، ولكنها تمكنت ـ في تجربة اقتصادية ملهمة ـ من النهوض، وحققت الرخاء الاقتصادي، ومن هذه الدول كوريا الجنوبية، التي تمكنت بدعم المعسكر الغربي خلال الحرب الباردة أن تتحول في سنوات قليلة إلى عملاق اقتصادي يساهم في نهضة العالم.
وهناك دول تمكنت من إحداث النهوض الاقتصادي، ولكن أزمة اقتصادية مدمرة شلت حركتها، وأوقفتها عند مرحلة معينة، من هذه الدول ماليزيا التي تعتبر أحد النمور الآسيوية، ولكن هذه النمور تعرضت عام 1997 لأزمة اقتصادية كبرى أثرت على اقتصادياتها، وكانت ماليزيا إحدى هذه الدول، ويقول مهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزي السابق إنه لولا هذه الأزمة لوصلت بلاده إلى مستوى الدول الكبرى.
وهناك أيضا دول عظمى حققت الرخاء الاقتصادي واطمأنت إليه، ولكن "تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن"، فتأتي أزمة اقتصادية توقظها من الحلم، ومن هذه الدول أميركا التي تعرضت عام 2006 لأزمة اقتصادية مدمرة عرفت بأزمة الرهن العقاري، التي مازالت تداعياتها مستمرة حتى الآن، وقد تسببت هذه الأزمة ـ حتى الآن ـ في خسائر بلغت 2.4 تريليون دولار، وإغلاق أكثر من 70 بنكا.
ولدينا أيضا نموذج اليونان الذي يعاني حاليا من أزمة اقتصادية وصفتها الدوائر العالمية بـ "الزلزال". التي دفعتها لإقرار خطة إنقاذ اقتصادية اعتمدت على التقشف. حيث تبلغ المديونيات الحكومية 300 مليار دولار، مما دفع البعض إلى اقتراح بيع بعض الجزر اليونانية لسداد الديون.
وهناك دول متخلفة أيضا، ولكنها تحاول النهوض، قد تتعثر وتسقط، ولكنها في محاولاتها المستميتة هذه للنهوض تحقق بعض الإنجازات، وتتمكن من أن تتسلح بأظافر وأنياب صغيرة تمكنها من الصعود، ولدينا هنا نموذج دبي المدينة الخليجية الصغيرة التي تمكنت في سنوات أن تكون المركز الاقتصادي الخليجي الأول، والمركز المالي الإقليمي المؤثر، رغم ما شاب التجربة من قصور، كان من نتيجته الديون الهائلة التي تحاصرها حاليا، وتهدد نجاح تجربتها الوليدة.
ولكن الواقع يقول إن هناك دولا أخرى كانت مزدهرة اقتصاديا، ولكنها في فترة ما ولظروف سياسية أو اقتصادية شهدت تراجعا، أعادها سنوات طويلة إلى الوراء، ولدينا هنا نموذج العراق الذي كان يتمتع في السبعينيات بقدر معقول من الرخاء الاقتصادي لدرجة جعلته مقصدا للعمالة العربية من دول أخرى، ولكن المؤامرة التي تعرض لها هذا البلد بعد اجتياحه للكويت، والتي انتهت بغزوه من قبل أميركا ودول ما سمي بالتحالف الدولي، والأحداث التي تلته ، أعادته ـ رغم الثروات التي يملكها ـ إلى الخلف عشرات السنين.
وهناك أيضا دول ما كان يسمى "الاتحاد السوفييتي" السابق، فبعد أن كانت تنتمي لثاني قوة عسكرية في العالم، وتتمتع بقدر من الرفاهية، تحولت بسبب نظرية إعادة البناء (البيريسترويكا) التي ابتدعها ميخائيل جورباتشوف إلى دول مستقلة، ولكنها دول فقيرة معدمة، وأصبح المواطن الروسي الذي كان ينعم في ظل الحكم الشيوعي بالعديد من الخدمات المتطورة ـ لا يجد أقل الخدمات.
كنا صغارا نتابع مجلة "المجلة" وكانت تصدرها ما كان تسمى حينها ألمانيا الشرقية التي كان رئيسها الأخير إريك هونيكر، (1971 ـ 1989) وكنا منبهرين بما تقدمه المجلة عن مستويات المعيشة العالية في الشق الشرقي من ألمانيا، التي كانت تتمثل في العمران، والخدمات، والحدائق، والمنح، والبيوت الأنيقة الملونة، وهي خدمات مثالية لا أعتقد أنها موجودة الآن بعد مرور سنوات طويلة على الوحدة.
وفي المقابل هناك دول تعرضت لهزات سياسية عنيفة كاليابان، التي ضربتها أميركا عام 1945 بالقنبلة الذرية، ولكنها في سنوات قليلة تمكنت من الوقوف على قدميها، ليس ذلك فقط، وإنما تمكنت من أن تقدم تجربة تنموية واقتصادية عملاقة دفعتها إلى مصاف الدول الكبرى.
وأيا كان سبب التخلف، فإننا وعلى سبيل الاستعارة إذا اعتبرنا التخلف مرضا فإنه يكون عادة مرضا مدمرا مزمنا ليس من السهل التخلص منه، وإذا حدث ذلك فإن العلاج منه لا يستغرق سنة أو سنوات معدودة، ولكنه يستلزم عادة عقود، وربما قرون.
ويلاحظ أن أسباب التخلف القدرية قليلة، بالمقارنة بالعوامل البشرية الأكبر، من هنا فإن الإنسان يتحمل المسؤولية الأكبر في عملية التخلف، ولا يحق لنا الاستكانة والاستسلام بدعوى أن التخلف قدر، وأن الخروج منه يحتاج إلى معجزة إلهية.
وبالطبع لا نرفض نظرية القدرية التي قد تكون سببا في نهضة دولة أو مجموعة من الدول، كما حدث في دول الخليج، حيث أدى ظهور النفط في الثلاثينيات إلى تغيرات اقتصادية واجتماعية هائلة، وكانت البحرين هي أول دولة خليجية تم اكتشاف النفط فيها في عام 1932، وكان للنفط دور هام ومحوري في إخراج دول الخليج من دوامة التخلف إلى مستوى الرفاهية المعيشية.
وإذا حاولنا إجمال الأسباب التي قد تكون سببا في التخلف سنقول إن من أسباب التخلف قلة الموارد وانعدامها، والانهيار الاقتصادي والأزمات المالية، والحروب، والنزاعات، والديون العالمية، والكوارث الطبيعية، وعدم الاستقرار السياسي، والفساد، والفشل الإداري.
ولكن الدكتور مراد وهبه تطرق إلى سبب آخر، عندما استعرض رأيا لأحد الكتاب الأجانب رأى فيه أن سبب التخلف يكمن في الثقافة نفسها، واستشهد ببلدين هما غينيا وكوريا الجنوبية، فالأول تمسك بثقافته فظل على تخلفه، والثاني غير ثقافته، فحقق التقدم.
ورغم إقراري بأن الثقافة قد تكون أحد معوقات التقدم، باعتبار أن جزءا كبيرا من ركام التقاليد في حد ذاته يندرج تحت بند التخلف، حيث يكون لها في بعض الأحيان قوة الدين، تتحكم في المرء وتكبله، وتوجهه، وليس شرطا أن تكون الثقافة إيجابية، فهناك تقاليد ترسخ السلبية، والفساد، والروتين، والكسل، وهناك ثقافات لا تتناسب مع مقومات الحياة الصناعية بما تحتاج من سرعة وإدارة وديناميكية.
مع إقراري بكل بذلك فإنني لا أتفق مع هذا الرأي الذي يجعل من التخلف ظاهرة ثقافية، لأن مقومات النمو والنهضة معروفة ومحددة يجب اتباعها، سواء كانت ثقافة البلد سلبية أو إيجابية، فالنهضة ليست ضربا من الصدفة أو الخيال، ولكنها نتاج يحتاج إلى مواد أولية محددة لصناعته وتكوينه.
وقد روى العالم المصري فاروق الباز قصة نهضة كوريا الجنوبية، حيث اجتمع المسؤولون بها وأرادوا تحديد الطريق للنهضة، واتفقوا على أن الإنسان هو العنصر الأهم لعمل أي نهضة، وأجمعوا على أن يكون تطوير التعليم الخطوة الأولى، وحددوا أربعة سنوات لهذا التطوير، وتوقفوا عن الدعم العام، ووجهوا كل مواردهم لتطوير التعليم، واستغرق ذلك منهم 13 عاما.
ولكن ضمن العوامل المتعددة التي يجب توفرها لإحداث النهضة الاقتصادية هناك عامل أساسي وضروري في رأيي، وهو الاستقرار السياسي، فما من دولة حققت الرخاء الاقتصادي إلا وهي تتمتع بالاستقرار السياسي، الأمر لا يتعلق بوجود الديمقراطية من عدمه، ولكن الاستقرار السياسي وحده هو القادر على توفير بيئة خصبة للنمو، لأن النمو قضية اقتصادية، والاستثمارات ورؤوس الأموال والاستثمار تحتاج جميعها إلى بيئة سياسية مستقرة، وكما تقول الجملة السائرة "رأس المال جبان".
الخروج من التخلف عملية صعبة ومعقدة لا تتم بين عشيّة وضحاها، وهي عملية تحتاج إلى تضافر مقومات معينة ثقافية واجتماعية وسياسية، ورغم صعوبة الأمر إلا أن الواقع وتجارب الدول تؤكد أنها عملية غير مستحيلة، والعامل الأهم هو وجود الإرادة السياسية القادرة على الإلهام واستنفار الشعب لإحداث هذه النقلة التاريخية العظيمة.