منذ 15 عاما زارني في المجلة التي كنت أعمل بها شاب مهذب يرغب في العمل بالصحافة فرحبت به ومنحته الفرصة، لم أفعل بذلك شيئا غير عادي ، فقد قمت بواجبي، وهذا ما أفعله دائما كل موهوب، ولكن السنوات مرت، وأصبح هذا الشاب في مركز إعلامي مرموق ، وفوجئت أخيرا بتواصله معي ، وعبارات شكره وامتنانه التي فاقت تصوري.
المهم أني بعد فترة تلقيت دعوة لمناسبة دولية مهمة، فلبيتها شاكرا ومقدرا، وهناك علمت أن من قام بترشيحي لهذه المناسبة هو نفس الأخ الطيب الذي منحته الفرصة قديما.
مواقف كثيرة بسيطة وجميلة مثل هذه تصادفني وتعجبني، ربما لأن الامتنان والعرفان ورد الجميل أصبحت أشياء نادرة في حياتنا، وربما لأن الدعم والمساندة والتشجيع ومنح الفرص معاني غابت في الزحام، وأصبح كل يبحث عن نفسه. فقد رفعت الأزمة الاقتصادية وتيرة الجشع الاجتماعي، فبات كل شخص يؤثر نفسه ومصلحته، حتى على أقرب الناس إليه، وهذا ما جسده المثل العربي القاسي "إذا جاءك الطوفان ضع ابنك تحت رجليك".
لذلك تستوقفني ثنائية "الجميل ورد الجميل" ، وعندما أجد موقفا يجسدها أبتهج وأقول .. "الله .." ، ورغم أن الدنيا كبيرة ومتشعبة ، فإن هذه الثنائية تحدث كثيرا، معك أو مع أحد أقربائك أو معارفك، شخص يسدى معروفا في آخر ، فتمر السنوات ، لتجمع الصدفة متلقي المعروف بصاحبه أو إبنه أو ابنته، فيرد الجميل له.
من وضع قيمة الجميل ورده؟، ومن جمع هذا بهذا بعد سنوات طويلة، ليرد الجميل، .. الله ، رغم بساطة الأمر إلا أنني أعتقد أن فيه سر ، فرد الجميل إضاءة ولمحة وبرهان رباني يظهر من حين لآخر ليثبت لك قيمة العمل الصالح، ويؤكد لنا ما تعلمناه صغارا بأن "من جد وجد ومن زرع حصد"، وينبهنا إلى باب اجتماعي كبير نسيناه طويلا وهو "صناعة المعروف".
الإسلام دين حياة ومعاملة ، فالمسلم لا يعيش لنفسه ، ولكن لمجتمعه ، لذلك كل القيم فيه تحض على التعاون والتآذر والتعارف والتكافل، لدعم بنية المجتمع كله، والمسلم لأخيه وفقا للتعبير الاسلامي كـ "البنيان المرصوص" ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص ؛ يشد بعضه بعضا".
في الإسلام عمل الفرد لا يعود عليه فقط ، ولكن يعود على أهله وأبنائه، ويمتد أثره الطيب إلى الأحفاد ، والعمل الطيب كالثمرة التي تنمو وتكبر وتتكاثر إلى فروع وأوراق ، والأروع من ذلك أن أثر العمل يستمر حتى الأبد ، فحتى لو مات المرء يستمر أثر عمله الطيب كالعطر الفواح ، قال النبي الكريم " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، لذلك يأمرنا الاسلام إذا جاء أحدنا الموت وفي يديه "فسيلة" أي شجرة صغيرة فليزرعها، يقول الحديث الشريف " إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل".
الجميل قيمة إنسانية جميلة ، ورد الجميل قيمة أعظم وأرقى ، فاحرص على أن تكون دنياك مليئة بالبذور والأشجار الوارفة لتبقى معطاءة سخية إلى أبد الآبدين.
تاريخ الإضافة: 2018-04-07تعليق: 0عدد المشاهدات :1524