اعترفت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون في استجواب أمام الكونجرس أن بلادها في عهد الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريجان منذ 20 عاما دعمت المجاهدين في باكستان، لمواجهة الاتحاد السوفييتي، بعد غزوه أفغانستان، وبعد انتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفييتي على أيدي جورباتشوف تحت شعار "بيريسترويكا ..إعادة البناء" سحبت أميركا المنتصرة نفسها من الميدان، وتركت الإرهابيين حلفاءها القدامى يرتعون في باكستان، ومن هنا تكون "تنظيم القاعدة" .
هيلاري أكدت بصراحة تحسد عليها "نحن من صنع هؤلاء الذين نقاتلهم الآن" تقصد بذلك الإرهابيين، وهكذا حضّرت أميركا العفريت، ولم تستطع صرفه، وأنشأت أخطر تنظيم إرهابي عرفه العصر الحديث على الإطلاق.
أميركا تعلمت أخيرا الدرس عندما رفضت إمداد المعارضة السورية بالأسلحة، ورغم تعهدها منذ شهور بذلك . إلا أنها تراجعت عندما أدركت أنها بذلك تكرر الخطأ القديم، وتمول أعداء لها، سيقفون لها يوما بالمرصاد .
ولكن بعض الدول العربية للأسف لم يعي الدرس، حيث قرروا بإندفاع تمويل ما يطلق عليه "المعارضة السورية" غافلين بذلك المخاطر التي تنطوي على هذا القرار، .. يريدون إسقاط الأسد بسرعة، ولكنهم يرتكبون نفس الخطأ، ويمولون شراء السلاح الذي سيوجه يوما ما إلى صدورهم، ويطعمون التنين الذي سيهاجمهم يوما ما بعد أن تسنح له الفرصة.
المتابع لـ "المجاهدين" في سوريا الآن سيكتشف أن معظمهم ليسوا سوريين، ولكنهم مزيج من جنسيات عدة أفغانية، وباكستانية،وعربية ، وبعضهم لا يتحدث العربية، .. كلهم تلاقوا في هذه البقعة الجغرافية من أجل أهداف مختلفة، وبعضهم أصلا بلا هدف ، جاء مستخدما في حرب لا يعرف منتهاها، وكل ما يهمه الراتب آخر الشهر.
أتفهم مبررات الثورة على الأسد، والتي تنحصر في الحرية، ولكن مبررات السوريين في الخروج على الحاكم تختلف عن مبررات المصريين للخروج على الحاكم، وبالطبع تختلف أيضا عن مبررات الليبيين والتونسين .
والمنصف سيجزم أن مبررات السوريين للثورة ليست قوية، أو قل ليست بنفس قوة مبررات المصريين مثلا، فسوريا ـ بعددها السكاني المحدود، ومواردها الجيدة، واقتصادها القوي، والذي من علاماته عدم وجود ديون على الدولة ـ لا يوجد بها مبررات قوية للثورة .
نحن لا نصادر حق السوريين في الحرية، ولكن من محاسن الصدف أن معظم الثوار ضد الأسد ليسوا سوريين، ولكن من جنسيات عديدة تجمعوا على الأرض لأهداف مختلفة، ليس من بينها "الحرية".
معظم المجموعات المسلحة التي تعمل حاليا على الأرض السورية جماعات جهادية تكفيرية، ومن بينها جبهة النصرة السورية التي بايعت مؤخرا تنظيم القاعدة.
شاهدت بنفسي تسجيلات مؤلمة لعمليات قتل وقطع رؤوس بلا محاكمة تمت على أيدي هذه الجماعات، وهي نفس الجماعات المتطرفة المجرمة التي ضربت العالم العربي في السبعينيات، وروعت الشعوب، وكفرت الناس، وشوهت وجه الاسلام الجميل.
لا أدرى ما هو مبرر الدول العربية لتمويل جماعات أقل ما توصف بأنها دموية تكفيرية تقطع رؤوس معارضيها وأعداءها على صيحات التكبير؟ .. الهدف المعلن تحرير الشعب السوري، وحمايته من بطش سلطة الأسد ، ولكني لا أقتنع بذلك، .. لا أعتقد أن الهدف هو الحرية، فالحرية لم تكن يوما على أجندة الدول العربية ، فلماذا تظهر الآن، وما المبرر؟، و "بأمارة إيه"؟.
الهدف الاستراتيجي حسب رأيي هو كسر شوكة المحور الايراني الذي يهدد المنطقة؟، الحرب في الأراضي السورية في الحقيقة ليست من أجل سوريا، ولكنها حروب بالوكالة من أجل مصالح إقليمية ودولية، وللأسف الشام دفع الثمن. تماما كزعيم العصابة الذي يستأجر القتلة ليبقى هو رجل الخير المحسن الذي يرتدي رداء الورع والإنسانية أمام الشاشات.
ولكن التاريخ أثبت ـ كما في الحالة الباكستانية ـ أن هذه الدول الأجيرة التي ترضى بأن تكون أداة في مثل هذه الحروب القذرة، سيتم خلعها في أول فرصة، ويلفظها القاتل، ويدوس عليها، كما يدوس عود ثقاب بالحذاء، الأمر أشبه بـ "القفاز" الذي يرتديه المرء، ثم يستخدمه في القتل، ثم يسرع إلى إلقائه في أقرب صندوق قمامة.
ولكن الخطر هنا أن العرب باندفاعهم ودخولهم المعترك السوري يكررون نفس الخطأ الأميركي القديم، ويعرضون أنفسهم لنفس الخطر .
المشكلة الآن ليست في وجود بشار الأسد، أو رحيله، ولكنها تكمن فيما بعد الأسد، حيث ستتحول سوريا إلى بؤرة للإرهاب العالمي. عندها سيفاجأ العرب بالتنين الذي أرضعوه صغيرا بـ البزازة"، حتى نما وتعاظم وأصبح وحشا، بمجرد تمكنه ينقض ـ كالإبن الجاحد ـ على الدول التي ربته.