البصمات لا تتشابه، والأذواق تختلف، والآراء من الصعب أن تتطابق بالعناوين والتفاصيل الدقيقة، لأن البيئات مختلفة، والثقافات كذلك، فإذا اتفق ثلاثة أشخاص مثلا على كره اللحم البلدي وعشق السوشي الياباني، من حقي أن أشك، وأعتقد أنها مؤامرة متفق عليها من الثلاثة، لتوجيه عقلي بالريموت كنترول، وصرف انتباهي عن اللحم، ودفعي دفعا إلى عشق السوشي.. مواقع التواصل الاجتماعي .. أحدث طرق اللعب في الدماغ.
السياسة لعبة شريرة، ففي غياب الديموقراطية وتفشي الجهل، يلجأ الأعداء إلى أساليب جديدة لتوجيه عقلك، انتهى عصر الغزو العسكري، وأصبح الغزو يتم عن طريق فكرة حادة مدببة تطير عبر الحدود، وتخترق اللحم، كالأشعة السينية.
إنها نفس الفكرة التي طرحتها أفلام الخيال العلمي، والتي تصور كيف يتمكن الشرير من السيطرة على عقول مجموعة من الأشخاص، بزرع شريحة تحت جلودهم أو في أدمغتهم، تمكن هذه الشريحة ذلك الشرير من التحكم في هؤلاء الأشخاص، وإصدار أوامر القتل لهم، فيستجيبون فورا مسلوبي الإرادة.
لم يعد التوجيه والتأثير كما كان يحدث في الماضي أسلوبه الوحيد القناة الحكومية الموجهة، ففي عصر التقنية أصبحت وسائل التأثير عديدة وفعالة، وقد حرص الأعداء على توظيف هذه التقنية في تشكيل الرأي العام، وتحويله وتوجيهه إلى الوجهة التي يريدونها.
"فيس بوك"، و"تويتر"، و"يوتيوب"، و"ماي سبيس" أشهر مواقع التواصل الاجتماعي ونشر مقاطع الفيديو في العالم، والتي باتت أسلوب حياة للكثير من الناس في جميع أنحاء العالم، وقد تمكنت بما حققته من انتشار من تجاوز دورها الأساسي كمواقع للتواصل الاجتماعي، لتؤدي دورا كبيرا في تشكيل الرأي العام العالمي.
"يوتيوب" الذي تأسس عام 2005، ويبلغ عدد زواره أكثر من 450 مليون متصفح يشاهدون يومياً أكثر من ملياري شريط فيديو عبر الموقع في مختلف أنحاء العالم، ويتم يومياً تحميل ما لا يقل عن 24 ساعة من أشرطة الفيديو على صفحات الموقع كل دقيقة، أي ما يعادل 150 ألف فيلم طويل أسبوعيا، وقد أهل ذلك "يوتيوب" ليكون أهم وسيلة إعلامية للتأثير في العالم.
أما موقع "فيس بوك" الذي تأسس عام 2003 ، فقد وصل عدد المشتركين فيه إلى 900 مليون مشترك من جميع أنحاء العالم، مما أهله ليكون أحد ثاني أهم وسائل التأثير الإعلامية في العالم، في نفس الاتجاه تأسس موقع "تويتر" عام 2007 ، وبلغ عدد مستخدميه 105 ملايين مسجل، وبلغ عدد الزيارات الشهرية 180 مليون زيارة، بينما تأسس موقع "ماي سبيس" عام 2002، وبلغ عدد مستخدميه 200 مليون مستخدم.
أتذكر هواية المراسلة التي كنا نمارسها منذ عشرين عاما في فترة المراهقة، وكيف كانت الهواية المفضلة لنا، وكيف كانت الصحف تفرد صفحات ومساحات لنشر "هواة المراسلة"، تتضمن صورا لطالبي المراسلة من الجنسين، ومعلومة قصيرة عن هواياتهم، والعنوان البريدي، وكيف كانت هذه الهواية رغم بطء حركة الرسائل البريدية، من أنجح وسائل التواصل الاجتماعي بين الناس من مختلف الشعوب والدول في فترة الاستعباد الإعلامي، وغلبة الصوت الواحد.
واليوم جاءت مواقع التواصل الاجتماعي لتكون شكلا متطورا للهواية القديمة. علينا هنا أن نعترف بالتطور الهائل الذي حدث خلال عشرين عاما فقط، وهو عمر الإنترنت، والدور الذي لعبته التقنية في تطور وسائل التواصل، والتقريب بين الشعوب والثقافات، ففي الماضي كانت الرسالة البريدية التي ترسلها إلى صديق تستغرق من ثلاثة أيام إلى أسبوع لتصل، وتكون بحاجة إلى مثلها لتلقي الرد، بينما وفرت مواقع التواصل الاجتماعي التواصل المباشر في نفس اللحظة عن طريق الكتابة والمحادثة صوتا وصورة.
والمدهش أن مواقع التواصل الاجتماعي لم تعد تقتصر على الهدف الأساسي الذي أنشئت من أجله، وهو التعارف والتواصل بين الأصدقاء، ولكنها أصبحت آلة إعلامية جهنمية يتم من خلالها الكثير من الأعمال، وتتحقق بواسطتها العديد من الأهداف.
وإذا حاولنا رصد الأعمال التي تتم عبر هذه المواقع بعمومية، سنجد أن هذه المواقع يتم من خلالها التعارف، والتواصل، والتسلية، والدعوة الدينية الإسلامية من ناحية، والتبشيرية من ناحية أخرى، ومن ناحية ثالثة دعاوى الإلحاد وازدراء الأديان، كما يتم من خلال هذه المواقع الدعاية، والتأثير السياسي، والدعارة، وتسويق المواد الجنسية، وممارسة الجنس الإلكتروني، والترويج الإعلامي، والإعلان، والمعرفة، والتثاقف، والتعريف بحركات التحرير، وكشف الفساد، والاستقطاب السياسي، والتجارة، والتسويق، والمعارضة، والتجسس، والشحاذة، والبحث عن وظائف، أو إعانات، وطلب الدعم السياسي، والنقاش بمختلف أنواعه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفني، وتبادل الأفكار والانطباعات، كما تستخدم هذه المواقع للنشر، حيث يلجأ العديد من الكتاب المحترفين والهواة لنشر كتاباتهم مختلفة المشارب والاتجاهات.
ومع وجود جانب سلبي لهذه المواقع، يجب أن نعترف بأن الجانب الإيجابي أكبر، وأن أكثر مستخدمي هذه المواقع من الراغبين في الاستفادة من مزاياه الإيجابية، أما اللاهون والعابثون وذوو الأغراض السيئة فهم النسبة الأقل، وقد ساعدت الإجراءات المتبعة في هذه المواقع ومنها معايير الخصوصية، وحرية قبول الصديق من عدمه، وحذفه من قائمة الأصدقاء عند الحاجة، والإبلاغ عنه إذا استلزم الأمر في حماية المستخدم الإيجابي، وتمكنه من تجنب الاستخدامات السيئة.
ولكن ما يلاحظ هو استخدام هذه المواقع من قبل جهات معينة لجمع المعلومات عن الأشخاص والشعوب والاتجاهات الفكرية المختلفة، والأمر لا يقتصر على الجمع، ولكن في كثير من الأحيان تستخدم هذه المواقع في السيطرة على الرأي العام، وتوجيهه، الأمر يشبه ما كان يسمى قديماً "عملية غسيل للمخ"، يصبح المخ بعدها مطيعا مؤدبا، يفكر حسب الرغبة.
وقد ثار مؤخرا الجدل حول مدى الخصوصية في هذه المواقع، وأنباء عن بيع بعض المواقع المعلومات الخاصة بالمشتركين إلى جهات مختلفة، مما دعا بعض المواقع، ومنها "فيس بوك" لاستحداث مزيد من الإجراءات التي توفر الخصوصية، وتجعل المستخدم قادرا على تحديد من يطلع على معلوماته الشخصية، ومن لا يستطيع ذلك.
وساعد على إثارة هذه المخاوف تنامي أهمية المعلومات، فمع التطور التقني وتقدم مفهوم المعلوماتية، أصبح للمعلومة أهمية كبيرة في التنمية والمشاريع والاستخبارات، والحروب، والتسويق، وتعبئة الأفكار والأنصار، وتشكيل الرأي العام.
وتتعدد الفئات المشتركة في هذه المواقع لتجمع جميع الفئات، الفقير والغني، العالم والمثقف ومتوسط التعليم والجاهل، الطفل والفتاة والسيدة والشاب والرجل، والمسن، الشيخ والمفتي والملحد، الملتزم والعابث، الوزير والمواطن العادي، الموظف والعاطل عن العمل، حيث بات المشتركون من كل الأعمار وكل الميول والمستويات التعليمية والاجتماعية وكل الاتجاهات الفكرية.
وقد دفعت مجانية هذه المواقع، وعدم وجود رسوم للاشتراك بها، إضافة إلى الخدمات العديدة التي تقدمها، مع انتشارها وسهولة استخدامها الكثيرين إلى الاشتراك بها والإقبال عليها.
بعض الدول والأحزاب والمنظمات تحاول ترويج أفكار معينة عبر هذه المواقع، وذلك من خلال أشخاص اعتباريين أو وهميين، يتوغلون عبر الشبكة، ويشاركون في النقاش، يعارضون الخصوم ويؤيدون الأنصار، ويمتدحون بعضهم بعضاً، في محاولة لتشتيت الرأي حول قضية ما، أو تحديد مسارها نحو الجهة التي يريدونها.
والطريف أيضاً أن هذه الحركة الموجهة يلاحظها المستخدم بالفراسة، وبمتابعة بعض الآراء ونوعيتها وأسلوب طرحها، وبتوقع الهدف منها، حيث يشعر المرء بهذه الآراء الموجهة، فالرأي قد يتفق فيه البعض، ولكن أسلوب التعبير عنه يختلف من شخص لآخر، ومن هنا فإن بعض الآراء مهما أتقن أصحابها التمويه يشك المستخدم فيها ، ويعمل عليها Hold بلغة الكمبيوتر.
مواقع التواصل الاجتماعي كالسكين، يمكن أن تستخدم في القتل، ويمكن أن تستخدم في الأعمال المنزلية النافعة، وفي كل الأحوال، في الشارع والمنزل والعمل وأمام التلفاز والإنترنت، يجب أن يكون عقلك قادرا على التمييز بين الصواب والخطأ، الجيد والرديء، وأن يكون قادرا على تكوين رأيه، وعدم الخضوع لتوجيهات الآخرين.
في عصر التقنية، والإنترنت، وجوجل إيرث، وبطاقات الائتمان، ومواقع التواصل الاجتماعي تلاشت خصوصية الإنسان، وأصبحت تحركاته ومعلوماته مكشوفة للجميع، ورغم الجانب السيئ في ذلك، ووجود جزء شرير من اللعبة، فإن علينا أن ننظر إلى الجزء المملوء من الكوب، وهو الجانب الإيجابي، الذي يعني في المقابل المزيد من الحرية، والصدق، والمعرفة، والتواصل، والتعاون، والمساواة، والقرب، في هذا العالم الكبير.