أنا .. أكره القهوة الجاهزة .. أكره كل ما هو سهل .. أحبها تقليدية الصنع رائحتها دون إضافات نافذة .. وجه سميك .. قاتمة .. تميل للمرارة إلا من نفثة سكر ..
أكره اللون الرمادي .. البهات ..
تغريني الألوان لا تستحوذ علي ..
قدريٌ .. أدركت يقيني في مرحلة ما .
حاد الطبع .. ديكتاتوري الهوى .. الوسطية ديني ..
أحببت مرة و بعدها لم أجد في أنثى واحدة ما يغريني .. تزوجت زواجاً تقليدياً .. يتناسب و توقيت مدينتي إلا أنه لا يغطي خارطتي .. زواجاً قد لا يكون كافياً و لكنه كفؤاً لمنزلتي ..
كل شيء في موقعه .. مرتب .. منظم .. منظومة لا يشوبها شائبة .. حتى وقعت عيناي عليكِ .. صدفة ارتطمنا كشهابين محدثين فوضى يستحيل بعدها للكون أن يستقيم ..
التقينا إذا .. في الكون أنثى تسترعي الانتباه ..
أنتِ .. أنتِ
لا أعلم كيف و أنا القدير أحلتني لطفل يتقافز حولك .. وددت لو أحطتكِ بسياج و طوقتك بذراعي .. وددت لو أخفيتك داخل صدري فلا ينفذ إليك بشر و لا تطلين إلا من خلف حجاب .. لطلتك حضور يجعلني حد الموت أغار عليكِ..
لستِ الأجمل أو الأروع و على الأغلب لستِ الأذكى أو الأعذب .. فقط كيان يحمل قدراً من كل شيء فتميزت و تفردت..
ورغم الحضور جذبتك .. فرقصت ..
تراقص قلبانا .. ثم أفلتُّك فأرخيتي النظر و رحلت ..
ظل عبيرك يداعبني و بلمسة سلام تركت بقلبي ما تركت ..
عودة إلى الواقع .. انتشاء ..
داعبت طفلي و قبَّلت امرأتي .. تناولت معهما العشاء و ناما فصعدت ..
صعدت لقلعتي الشاهقة .. وحيدا إلا منكِ ..
مولع بدرويش أنا .. ذاك الفلسطيني الثائر .. كلانا يشبه الآخر في شموخه و عنفوانه ..
اعتليت عرش وحدتي و استمعت لرائعته "هو و هي" بإمعان ..
هِيَ: هل عرفْتَ الحبَّ يوماً؟
هُوَ: عندما يأتي الشتاء يُصيبني شغفٌ بشيء غائبٍ، أُضفي عليه الاسم، أيّ اسمٍ، وأَنسى...
هي: ما الذي تنساه؟ قُل!
هو: رعشةُ الحُمَّى، وما أهذي به تحت الشراشف حين أشهقُ: دَثِّريني
هي: ليس حُبّاً ما تقول
هو: ليس حبّاً ما أَقول
هي: هل شعرتَ برغبة في أن تعيش الموت في حضن إمرأة؟
هو: كلّما اكتمل الغيابُ حضرتُ...وانكسر البعيد، فعانق الموتُ الحياةَ وعانَقَتهُ... كتوأمين
هي: واتّحدْتَ بها، فلم تعرف يديها من يديك وأنتما تتبخّرانِ كغيمةٍ زرقاء لا تَتَبيَّنانِ أأنتما جسدانِ... أم طيفان أَم؟
هو: من هي الأنثى - مجازُ الأرض فينا؟ مّن هو الذَّكرُ - السماء؟
هي: هكذا بدأتْ أغاني الحبّ. أنت إذن عرفتَ الحبّ يوماً!
هو: كلّما اكتمل الحضورُ ودُجِّنَ المجهول... غِبْت
هي: إنه فصل الشتاء، ورُبَّما أصبحتُ ماضِيَكَ المفضّل في الشتاء
هو: ربّما... فإلى اللقاء
هي: ربّما.. فإلى اللقاء!
أخذت استرجع ملامحك .. نظرات عينيك .. متى توهجت و متى خجلى سكنت .. كيف تحدثنا صمتاً بالعيون و كيف بي تشبثت ..
وكأنكِ ولدت من رحم قلبي .. كينونة خلقت من دمي و عاطفتي ..
فريدة و لكن بحضوري تألقتِ ..
و من فرط ثمالتي بكِ .. حضرتِ ..
- سألتك: هل تنتهي حكايتنا عند هذا الحد؟ ..
- أجبتِ: ربما .. هل تسمح لها أن تنتهي عند هذا الحد ؟
- صمتُّ ..
- فأردفت: استمع لقلبك وربما .. فقط ربما .. و تبسمتِ ..
* لكل لقاء رهبة تسبقه وكان هذا لقاءها التليفزيوني الأول .. آثرت أن تبدو كالزهرة فيه .. تنورة بيضاء وقميص أبيض مرصع ببتلات وردية يتوجهما وجهها بعينيها اللامعتين و شفتيها الدقيقتين ..
خطت إلى لقائها مضطربة قلقة حتى وقعت عيناها عليه .. كيان وقور .. وجه باسم .. عينان ثاقبتان و فم منمق .. تحيطه هالة نور جذبتها إليه .. علمت أنه من سيحاورها فزاد اضطرابها لولا بسمة من شفتيه بعثت بنفسها الطمأنينة .. قليلاً ..
تلاقت عيناهما فوقع بقلبها .. رحَّبَ بها .. جلست أمامه .. استشعرت جلسته المهيبة .. كزهرة تفتحت على أكفه ..
قدمها للمشاهدين .. أخذ يحاورها .. سألها عن حياتها و فنها .. أراد أن يجد مدخلاً ليسأل عن حياتها العاطفية فلم يجد سوى المدخل التاريخي لهذا الأمر ..
- من وجهة نظرك ما الحب؟
- تضحك بمكر ..
- يندهش من ضحكها !
- حسناً لا تنظر إلي هكذا .. سوف أحكي لك حكاية صغيرة تَمُتُّ لسؤالك بصلة .. أثناء دراستي الجامعية و بالضبط في إحدى محاضرات مادة السياسة .. كانت صديقتي تجلس جانبي و لم تكن من المهتمين بالدراسة .. جلست و بين يديها كتاب رومانسي تقرؤه .. و فجأة نكزتني فملت عليها برأسي فإذا بها تسألني ما الحب ؟ .. لم أتردد للحظة مجيبة "الحب زي البرد لا تعرفي امتى بييجي ولا تعرفي امتى هيمشي .. الحب فيروس غريب و أحيانا بيكون قاتل .." !
- يتبسم في رصانة شديدة ..
- تبادره .. إذاً أجبتك على سؤالك هل تسمح لي أن اسألك أنا الآن ؟..
- يندهش من طلبها و لكنه يوافق .. حسناً تفضلي !
- من أنت ؟
- أجابها إن كان لابد من الإجابة فأنت أقدر مني عليها .. أخبريني أنت .. من أنا ؟!
- أجابته متيقنة "أنت القمر"
- ضحك خجلاً متشككاً .. أأنا القمر أم أنتِ ؟!
- أجابته بمنطقية متبخترة "يا سيدي شاهق أنت كما القمر بالسماء .. كما انتظاري تشخص إليك الأنظار كل مساء .. في حقيقتك كما القمر جسم معتم ينتظر من الشمس الضياء .. أعلمت الآن من أنا ؟! "
- يضحك لتبجح قد زانه منها الذكاء .. يا فاتنة أهذا غزل أم هجاء ؟!
يضحك كلاهما من حوار زانه الدهاء و عمَّه السحر ..
ظلت تتابع إيماءاته .. نظراته .. تتتبع أسئلته و تتحرى الصدق في الإجابة عليها .. راقبت تعابير وجهه .. أتقن عرضها و فنها كساحر يتناقل فراشة بين أصابعه .. عالم هو بها و كأنها صنعت على يديه ..
انتهى اللقاء و لكن لم ينكسر السحر .. اليوم قابلت ضوءها الشارد و كفرحةٍ في مهدها حلقت في سماءه .. عادت لمنزلها تاركة روحها لديه .. عادت مزهوة بعرش أسسه لها ..
استلقت على سريرها داخل ظلمة غرفتها تفكر به .. كيف عرف الجمهور بها و أبرز محاسن فنها .. كيف احتفى بفنانة في باديء حياتها و لم يتكبر عليها .. بشاشته و دفئه .. و إذا بصوت قاسٍ أجش ينتهك خصوصيتها "أنت جيتي يا ست المشهورة " تستيقظ من حلمها العاشق على واقعها المؤلم .. جسد يرتمي جانبها فينفض سريرها .. يَذْعُرْ قلبها و ينتفض .. أصابع باردة الأطراف تمتد إلى جسدها .. تحاول أن تتعذر بالتعب .. تعتذر و لو لليلة واحدة عن تلبية رغباته .. ينهرها آمراً "هو أنت أول ما هتتشهري مش هتسمعي الكلام ولا ايه .. تحبي أقولك اقعدي في البيت و مفيش شغل ولا تسمعي الكلام و تطاوعيني .. ياللا يا فنانة تعالي برضاكي أحسن" .. خمسة أعوام من الذل و القهر تستيقظ داخلها .. استجداء للحب من قلب فارغ لا يعرف الرحمة .. زواج تقليدي سريع بمواصفات سليمة و لكن كانت نتيجته صادمة .. زوج لا يعرف للعاطفة طريق ولا يهمه سوى صب حماه بها .. أخذ ما يأخذه كل ليلة و استدار تاركاً إياها مدمرة منهكة..
على أطراف أصابعها خرجت من الغرفة لتغتسل مما لحق بها من تنكيل لأنوثتها زلزل كيانها .. وقفت تحت المياه تبكي ألماً كيف انتهى بها الأمر مع هذا الوحش النهم ؟! .. أخذت تتذكر كلام أبيها عن مدى ملائمة مواصفات العريس لوضعهم و كيف أقنعها الناس بأنه لا حياة للمرأة سوى ببيتها و أن فنها ما هو إلا موهبة يمكن التنازل عنها في سبيل أن تتزوج و يكون لها حياتها .. كيف كان فنها مدخلاً لها لكل من ذوي الأطماع و النفوس المريضة .. يأسها من أن تجد حبيبها المنتظر .. نصائحٌ انهالت على مسامعها "اللي بتدوري عليه مش هتلاقيه .. مفيش رجل تفصيل .. أنت بتتبطري هو حد لاقي جواز .. اتجوزي علشان تجيبيلك عيل تربيه و تفرحي بيه" .. ترطم رأسها بالحائط باكيةً نادمة .. تستند برأسها إلى الحائط .. تمتزج قطرات المياه الساخنة ببكاءها .. ينخرس صراخها ..
تظل هكذا لبعض من الوقت .. تغلق المياه تلف جسدها بمنشفتها .. تتسمر أمام المرآة حاسمة أمرها "فات الأوان" .. في استسلام تام ترتدي ملابسها و تخرج .. تحضِّرُ لنفسها كوباً من النسكافيه و تجلس على الأريكة تلتقط أنفاسها .. تعلم أنه لن يصحو مرة أخرى كعادته .. تخرج اسطوانة مسجلة لقصائد درويش بصوته .. تستمع إلى قصيدته "أجمل حب" .. أخذت أبيات "درويش" تغزو مسامعها و تتردد داخلها ..
كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة
وجدنا غريبين يوماً
وكانت سماء الربيع تؤلف نجماً .. و نجما
وكنت أؤلف لعينيك فقرة حب
لعينيك .. غنيتها !
أتعلم عيناك أني انتظرت طويلاً
أتعلم عيناك أني انتظرت طويلاً .. تكالبت عليها جراحها و دمعت عيناها .. فحضر بكامل بهائه يكفكف دمعها.. جلست بين يديه .. أسندت رأسها على ركبته .. جرت على وجنتيها دموع انتظار و وحدة لطالما أرَّقا ليلها .. نظرت إليه نظرة المعاتب الملتاع شوقاً .. بثته وجعها صمتاً .. رأته ينظر إليها نظرة المعتذر العالم بوجعها .. مدَّ كفه يلامس وجهها .. تمسحت بكفه كقطة .. نظرا لبعضهما مطولاً تحدثا وجداً "أتعلم عيناك أني انتظرت طويلاً" ..
- يرد عليها متمماً قصيدتها .. يا أجمل حب :
صديقان نحن، فسيري بقربي كفا بكف
معاً نصنع الخبز و الأغنيات
لماذا نسائل هذا الطريق .. لأي مصير
يسير بنا ؟
و من أين لملم أقدامنا ؟
فحسبي و حسبك أنا نسير
معا، للأبد
كلاهما ينطق معاً للأبد .. تتحسس شفاهه بأناملها حينما ينطق بها .. فتغفو على كفها بكفه .. يسيران نحو أبد جميل .. أبد مستحيل ..
ويصدح صوت "درويش" حراً مجلجلاً .. مخلفاً صداه خاتماً:
أتعلم عيناك أني انتظرت طويلاً
كما انتظر الصيف طائر
و نمت .. كنوم المهاجر
فعين تنام لتصحو عين .. طويلاً
و تبكي على أختها،
حبيبان نحن، إلى أن ينام القمر
ونعلم أن العناق، و أن القبل
طعام ليالي الغزل
و أن الصباح ينادي خطاي لكي تستمرّ
على الدرب يوماً جديداً !
رانيا حمدي