فعلها الشعب المصري العظيم، خرج في 30 يونيو بالملايين في شوارع مصر المحروسة، ليفرض إرادته الحرة، ويقول للرئيس مرسي"إرحل"، تقول الأغنية "والله وعملوها الرجالة"، وإن كانوا في الحقيقة رجالا، وشيوخا، وأطفالا، وسيدات، وفتيات في عمر الزهور، .. تذكرت أم كلثوم، وهي تغني كلمات كامل الشناوي "أنا الشعب .. أنا الشعب .. لا أعرف المستحيلا .. ولا أرتضى بالخلود بديلا".
فعلها الشعب العظيم بعد أن شكك الأغبياء في الأمر، واستهزأوا بقدرة الجسد المثقل بالجراح بعد حروبه اليومية في طوابير الخبز، والبنزين، ومتطلبات الحياة، وحروب أخرى مستدامة من أجل الحرية، وأكدوا أن يوم 30 يونيو سيمر، كأي يوم، ولن يخرج أحد، وتمادى أحدهم في الثقة المفرطة، وقال أن الشعب خرج في مليونية "لا للعنف" التي دعت إليها التيارات الإسلامية، وانتهى الأمر، محتكرين بذلك حتى "الاحتجاج".
حتى الرئيس نفسه قال بـ "ثقة" في خطابه الأخير لأهله وعشيرته "لا توجد ثورة أخرى"، وهو نفس ما قاله اللواء عمر سليمان قبل خلع مبارك، وردده رجل الحزب الوطني عليّ الدين هلال الذي استهان بعدد المتظاهرين، وقدرهم بـ 40 ألف فقط.
نفس هذه "الثقة" رأيناها من قبل في عيني بن علي، ومبارك، والقذافي، وصالح، وغيرهم من الطواغيت، وقد حولتها الشعوب الثائرة بسرعة إلى نظرات خوف، وانكسار، وشرود، وهوان، وموت كما حدث مع القذافي.
فعلها المصريون، وخرجوا بأعداد فاقت تلك التي خرجت في ثورة 25 يناير 2011 ضد مبارك. بعض التقديرات تشير إلى أن عدد ما كانوا في الشوارع في هذا اليوم 18 مليونا، والبعض الآخر قال 22 مليونا، وآخرون قال أن 33 مليونا خرجوا في كافة ميادين وشوارع مصر في يوم مهيب لم تشهده مصر ممن قبل، بينما أكد البعض أنه أكبر مظاهرة في التاريخ.
ولعل الصورة التي نشرها موقع "جوجل إيرث" أمس، والتي قارنت بين الحشود الموجودة في ميدان التحرير، وتلك الموجودة في "إشارة" رابعة العدوية حيث يتظاهر أنصار "الإخوان" دليل تقني دامغ على ضخامة أعداد الثائرين المطالبين برحيل مرسي وجماعته.
وبالنظر إلى فارق جوهري بين الحشدين، وهو أن جمع "ميدان التحرير" عفوى خرج الناس فيه طواعية بإرادتهم دون إجبار، أما الجمع الآخر فقد تم تجميعه على نفقة التنظيم الدولي من المحافظات في باصات مكيفة، بالنظر إلى هذا الأمر، سيكون الفرق شاسعا.
وبالنظر أيضا إلى ما تردد عن خلاف حدث بين بعض هؤلاء "الغلابة" الذين تم شحنهم من قرى ومدن بعيدة، وأصحاب الباصات الذين رفضوا إعادتهم إلى مناطقهم في نهاية النهار، لأن الاتفاق كان "One way" يكون الأمر مضحكا.
اليوم أدركت حقا دلالة العبارة التي أطلقها الزعيم الوطني مصطفى كامل باشا منذ أكثر من 100 عام، والذي قال "لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا " فهى لم تكن مجرد عبارة عنصرية تضخم الذات، ولكنها قانون اجتماعي رسخته التجارب، والخطوب، والمحن، وحضارة عمرها 7 آلاف سنة.
لقد خرجت مصر في 30 يونيو عن بكرة أبيها لتقول لا للاستبداد، ولا للتجارة بالدين، ولا لتغيير هوية الوطن الذي علّم العالم، فجاء حفنة من الجهلاء ليتقمصوا دور "المعلم" ويعبثوا بتاريخه وحاضره، ويتآمروا على مستقبله، وكان ذلك استفتاء شعبيا جديدا على هوية مصر الوسطية المعتدلة، الرافضة لحكم الكهنة الكاذبين.
مرة أخرى يعلِّم المصريون العالم، ويخالفون توقعات أجهزة الاستخبارات العالمية، ويضعون أسسا جديدة في فقة الثورة، أهمها أن الشعب الذي قام بثورة قادر على القيام بغيرها، وأن التحولات في حياة الشعوب ليس شرطا أن تتم عبر مئات السنين، فمن الممكن أن تحدث في عام أو عامين، وأن لقمة العيش ليست أهم من الحرية.
استعاد المصريون ثورتهم التي سرقها القراصنة، وأكدوا مرة أخرى أن كلمة الشعب هي النافذة، وأن عصور الاستبداد انتهت، وأن هذا هو عهد إرادة الشعوب.
الشيء المهم الذي نستخلصه من كل ذلك أن هذه الملايين التي خرجت لتفرض إرادتها، وتزيح حكم الإخوان، هي لاشك قادرة على فرض نفس الإرادة في أي مجال، في الاقتصاد، والسياسة، والعلوم، والتقنية .. وغيرها من مجالات التقدم ، النتيجة التي توصلت إليها هذه التجربة المعملية أن هذا الشعب إذا قرر أن يفعل المستحيل سيفعل، ولو أراد أن "يكسر الدنيا" وفقا للتعبير الشعبي المجازي سيفعل.
أجمل ما في هذه الثورة الجديدة أنها حركت عضلة الإرادة المصرية التي تيبست لعقود بسبب عدم الاستخدام الطويل، وهي العضلة الوحيدة التي لو تحركت لصنعت المعجزات.
سيرحل الرئيس مرسي، ويلملم الإخوان أغراضهم، ويغادرون التاريخ بلا رجعة. لا لشيء، ولكن لأن الشعب قرر ذلك.