كلما زادت صور الحاكم وتماثيله وتماثيل أبيه وشقيقه في الشوارع، اقتربت نهايته، وكلما زاد حجم الظلم دنت هزيمته، وكلما تجبر الظالم اقترب انتصار المظلوم، بعد الصعود إلى قمة الجبل لا مفر أمام الطاغية من النزول، .. اللبن يغلي ثم يغلي بفعل النار، وفي لحظة محددة يفور، والبركان يظل لسنوات طويلة يتفاعل تحت قشرة الأرض، وفي توقيت محدد يثور، ويقذف الحمم والبراكين.
الثورات العظيمة لا تحتاج إلى إعداد أو تخطيط، كما تدعي كتب التاريخ، فالثورة ظاهرة طبيعية كالرياح والعواصف، يمكن أن تنفجر فجأة، .. وتحدث لسبب بسيط جدا، في الظاهر يبدو السبب محدودا، ولكن إذا دققت ستكتشف أن هذا السبب البسيط سبقته أسباب أخرى عظيمة.
يتحمل المظلوم القهر والظلم والتعسف والفقر والفساد والتعذيب، وبمرور الوقت يصبح على مر الزمن قنبلة نووية موقوتة، لغم قابل للانفجار بمجرد الضغط عليه، أمام أي ظلم بسيط يمكن أن ينفجر، ليصبح هذا الظلم البسيط "كالقشة التي قصمت ظهر البعير"..
أعظم الثورات تلك التي تحدث بعد ردح طويل من الظلم، حينها تكون قد استوت، ونضجت، وامتلكت أهم المقومات وهو الضغط الشعبي، وأخطر ردود الفعل تصدر من الحليم الصبور، لأن غضبته حينها ستكون غضبة غير عادية، يقول المثل "اتق شر الحليم إذا غضب".
الظلم عندما يزيد تصبح الثورة فضيلة، وفريضة، وفرض عين ، دعك ممن يحرمون الثورة والخروج على الحاكم بدعاوى مختلفة، فالإسلام العظيم دين لا يرضى بالظلم، لقد حرم الله تعالى الظلم على نفسه، وقال "وما ربك بظلام للعبيد"، لقد جاء الإسلام لمهمة أساسية نبيلة، وهي إزالة الظلم وإقرار العدل والحرية، يقول الشاعر "أخي جاوز الظالمون المدى .. فحق الجهاد وحق الفدا".
يغتر الظالم بقوته عندما لا يرى اعتراضا من المظلوم، ينام قرير العين وهو يظن أنه استعبد شعبه إلى الأبد، ولكن لحظة فارقة يثور المظلوم، ويقلب القاعدة، فيصبح السجان سجينا والمسجون سجانا.
هل كانت الشرطية التونسية فادية حمدي التي صفعت الشاب محمد البوعزيزي تدري أن هذه الصفعة ستشعل الثورات، وأنها ستكون بمثابة شرر النار الذي أشعلت مخزن البارود؟.
لو كانت تعلم ما سيحدث، لاحتفت بمقدم البوعزيزي، وحققت فورا في شكواه واعتذرت إليه، ومنحته تصريحا مفتوحا بالبيع في أي مكان حتى ولو كان داخل مبنى البرلمان. لو علم الرؤساء ما ستحدثه واقعة ظلم صغيرة، لامتنعوا عن الظلم بكافة أشكاله وألوانه، ولكن التاريخ يؤكد أنهم لا يتعلمون .
الأرض العربية تهتز تحت وقع الزلازل، وتنبئ بالمئات من الهزات الارتدادية المقبلة، ولكن الرؤساء لا يعتبرون من ثورات الشعوب، الأغبياء الذين تقلدوا الرئاسة صدفة لا تنتظر منهم أن يفقهوا التاريخ، أو الجغرافية، ويتوقعوا العواصف المقبلة.
ولكن كيف ينتظر العالم العربي كل هذا الهوان لكي يثور، كيف يرضى بالذل والظلم وسلب الحقوق طوال هذه السنوات؟ ، كيف ينتظر "القشة" لكي يعلن رفضه وثورته؟.
تأخر ربيع الثورات العربية طويلا، حتى أجدبت الحقول، وفقدنا الأمل في الحصاد. لقد فقدنا فعلا الأمل في التغيير ..، ولكن "الثورة المصرية" أكدت أن الأمل حي، وأن الشعب لا يموت . قد يمرض، ويهزم، ولكنه أبدا لا يموت.
ليس من الحكمة أن تهزأ بالضعيف، لأن الله يمنحه في لحظة ما قوة جبارة تمكنه من النصر. ليس من الصواب أن نهمل الحرائق الصغيرة ، لأن الحريق الصغير قد يجد الغذاء، ويتحول إلى حريق كبير، وكما قال الشاعر "ومعظم النار من مستصغر الشرر".
ليس ذلك فقط في الجانب السلبي، ولكن في الجانب الإيجابي لا يجب إهمال القول إذا كان من صغير أو فقير أو مهمش، فالفكرة الخلاقة قد تأتي فجأة من رجل بسيط، قد تظهر وأنت جالس تحت شجرة كما حدث مع نيوتن الذي أوحى له سقوط التفاحة بقانون الجاذبية، الشيء البسيط قد يتحول فجأة إلى شيء عظيم، وكما يقول التعبير الشعبي"نواية تسند الزير".
تسونامي العرب بدأ فاقتلع اليابسة، وأزاح رموز الشر، وسوف يستمر المد البحري ليغير خارطة العالم، والشعوب العربية التي خرجت إلى الشوارع تهتف بسقوط الأنظمة، وحصلت على حريتها بالدم والنار، لن تتنازل مرة أخرى عن الحرية والديموقراطية التي تليق بأعظم أمة أخرجت للناس.