بقلم : السيد الجزايرلي.
المتلقي العربي الذي تشرب لسنوات طويلة من جماليات الشعر في موروثنا القديم، وأدهشته القصائد والسماء التراثية التي بقيت محفوظة في الذاكرة الجمعية للعرب، ليس من السهل عليه الآن في ظل تعدد وانتشار المعطيات الأخرى الكثيرة أن يندهش لقصيدة تعزف على أوتار الأولين.
إذ أن مراحل التطور التي مرت بها الشعرية العربية، والإنتقالية التي حدثت في سياق الشعر العربي لأربع مرات في أقل من قرن من الزمن، أصبح الشعر بعدها ليس الهم المعرفي الثقافي الأوحد، فهناك معطيات أخرى تستمد فعلها من أنماط سردية لم تكن موجودة في القديم، كالرواية التي تغذي السينما، وغيرها من وسائل شغلت ساحة التلقي .
وبصراع هذه الأنماط المتعددة، صار المتلقي يميل أكثر إلى الإنتقائية، وبذلك صارت مهمة الشاعر أكبر، أولا : إذا كان ينجز قصيدة في شكلها الملتزم عليه أن يضيف جديدا على بناء السابقين، الذين برعوا ، ولازلنا نردد قصائدهم حتى الآن.
وثانيا : قدرة على الإدهاش يستطيع بها الشاعر أن يجذب المتلقي المنصرف إلى الوسائل الأخرى، التي يزدحم بها وقته، وهذا وذاك قد يدخل الصياغة العمودية في الشعر في الوقت الراهن إلى الفعل المستحيل، إذ لا يوجد في عصرنا من يمتلك قدرة تتجاوز أفعال الأسماء التراثية الكبيرة، خاصة إذا كانت آليات الكتابة القديمة هي المستخدمة حديثا.
ومع اختلاف الأشكال وتباينها، يظل الشعر شعرا، وتظل القيمة فيما يختفي من الظاهر الشكل داخل المضمون ، والقيمة الجمالية للغة المستخلصة من القاموس الشعري القديم لتناسب بساطة الخطاب في المعطيات الأخرى.
وحينما نضع أمامنا هذه البديهيات أثناء قراءة شاعر جديد يكتب بآلية ليست جديدة، حتما ستضيف هذه البديهيات أشياء مثل الإصرار والتمكسك بالشكل، ومحاولة التجديد في الداخل وليس الخارج، ثم التحدي للخطابات المستحدثة، المهيمنة والوقوف في مقابلها.
ومن الشعراء الذين يعمودون إلى ذلك الأمير كمال فرج، فهو ينتمي زمنيا إلى الحاضر، بينما شكله الشعري ينتمي إلى الماضي، ومع أن الزمنين ينتظمان في سياق تاريخي واحد، فإن الشاعر لازال منذ بداياته متمسكا بالخط المألوف في الشعرية العربية، وإن كان يجنح إلى التفعيلة أحيانا، يعاود إلى نسقه وملامحه التي عرف بها بين مجايليه، وهو يمتلك طاقة شعرية كبيرة ساعدته كثيرا في صياغة تجربته بشفافية عبر ديوانين متميزين .
وأهم ما يميز قصيدة هذا الشاعر أنه يعتمد اللغة البسيطة الموصلة، وغير المعقدة كما يفعل الكثيرون، ممن يكتبون بالشكل التقليدي، فهذه اللغة السهلة قد تكون من أهم العوامل في عدم خسارته لقارئه، قاريء هذه المرحلة بالذات.
وخلال ديوانه الأول "حورية البحر" أسس الأمير كمال فرج لهذه اللغة السهلة، ثم عاود لاستكمالها في ديوانه الثاني "فينوس والسندباد"، وإن كانت تجربة الديوان الأول ضاربة في الإتجاه الرومانسي بشفافيته وغزلياته التي تخاطب العاطفة أكثر من توجهها المفترض إليها والعقل معا كمكونات أساسية في نسيج واحد، فكذلك ديوانه الثاني ، وإن كانت ثمة إضافات جديدة، تتجلى ممثلة في توظيف من الموروث والأسطوري مثل "فينوس ، سيزيف، بجماليون، السندباد، وغير ذلك من التوظيفات المشابهة.
وحقيقة مهمة تتبدى خلال شعرية الأمير كمال فرج والإقتراب منها وهي كثيرة، وهي أن كثير من قصائده تكسر حدة القالب القديم الذي تلبسها فتصير حديثة، بكل مكوناتها وعناصرها، ورؤية الشاعر فيها، ثم أن النزوح المتكرر إلى العاطفة الإنسانية من أهم سمات التقرب إلى فاعلية التواصل مع الشاعر، وهنا تتأكد عوامل التمثل في الشكل على أنها ليست إمتدادا مشروعا لحرككية الشعر، وإن الأشكال الجديدة، ليس من وظيفاها كما يظن بعضهم، مخطئا الإزاحة أو الإحلال مكان الأشياء الأخرى ، وإنما تؤكد أن تعدد الأشياء ضرورة يتطلبها العمل الإنتقائي في أساليب التلقي.
والأمير كمال فرج من الشعراء الذين يحافظون على جماليات القصيدة التقليدية في غير عداء أو نكران لدور الأشياء الأخرى ، وقصائده في الغالب ـ إذا استثنينا بعضها المتشبث بالذاتية والمناسباتية ـ يتبدى فيها النقاء الشعري وملامسة النفس من منطقة قريبة منها إلى حد كبير، وهو مشغول دائما بسرد تفاصل العواطف ، وتوجهات خطابه تصب في دوائر الأنثى سواء كانت المرأة أو الأرض، بتجليات مختلفة تنتظم في بناء شعري يتوحد في الشكل وتوحد في المضمون .