حاورها: الأمير كمال فرج.
تستلهم الفنانة التشكيلية جيهان سعودي لوحاتها من مشارب مختلفة مثل الأساطير القديمة كالفرعونية إيزيس، والتراث النوبي، والفن الشعبي والإسلامي والقبطي، ولكن في مرحلة معينة اكتشفت كنزاً اسمه "الخيال"، ولا حظت أن الرسم العفوي بدون تفكير مسبق بخيال مجنح، فتح لها مساحة أكبر بكثير من مساحة الموروث الثقافي.. في لوحات جيهان قاسم مشترك هو الفرح، ويظهر ذلك في الألوان، خاصة الأصفر الذي يمنح اللوحة الطاقة والنشاط والحيوية، وفي الشخصيات الهزلية مثل "المهرج" الذي يمنح الناس البهجة التي يفتقدها هو.
قدمت جيهان عدداً من المعارض الشخصية هي: (مشاهد ريفية) أتيليه القاهرة 2002، (فرشاة تمطر مصريات) أتيليه القاهرة 2009، (ميراث ثقيل) ساقية الصاوي 2010، (إنها إيزيس) القاعة المستديرة بالنقابة بدار الأوبرا 2014، (مكعب سكر) بقاعة قرطبة 2019، كما حصلت على منحة تفرغ وإبداع من وزارة الثقافة المصرية عام 2009.
قالت جيهان -في حوارها مع "الرافد"- إن أي مشكلة قابلة للحل، ودور الفنان تبسيط الحياة، وتقديم حلول جمالية لأي مشكلة، ونشر الفرح والروح الإيجابية من خلال لوحاته، مشيرة إلى أنها تعلمت من الأطفال؛ لأنهم ينظرون للحياة بعيون بسيطة، وآراء أخرى في هذا الحوار.
❃ تستأثر المرأة بدور البطولة في أعمالك، فهل هذا انحياز طبيعي من المرأة للمرأة، أم أن القضية أكبر من ذلك؟
استحوذت المرأة على جزء كبير من أعمالي؛ لأن لديها تفاصيل كثيرة جدّاً في الملابس والأدوات، وحياتها اليومية، وفي كل أدوارها في الحياة، تفاصيل معقدة أستطيع الخوض فيها، أدرسها وأشكّلها وأحوّرها، وأخرج منها بأشكال مختلفة، هذه التفاصيل الكثيرة تتيح لي مجالاً واسعاً للتخيل، وبالطبع دور الرجل أيضاً مهم، بدأت التركيز عليه في أعمالي الأخيرة، وهو دور ليس مكملاً، ولكن يوازي دور المرأة في الحياة اليومية، ولكن تفاصيل المرأة تتميز بالثراء والحيوية أكثر.
تتميز المرأة بتفاصيل كثيرة في الملابس والأدوات والإكسسوارات، وتفاصيل حياتها اليومية، والأدوات التي تستخدمها، والأماكن، والأدوار الأسرية والمشاعر، قصص كثيرة تدور حول المرأة والمحور الخاص بها، كل ذلك يجذب انتباهي، وطبيعي أن أنحاز للمرأة كوني امرأة، ولكن ثراء المرأة كمعنى إنساني ودور رئيس في الحياة سبب أساسي للانحياز لها في لوحاتي.
❃ هناك أدوات مختلفة يستخدمها الفنان لإبداع اللوحة، فما دور الخامة في تنفيذ أفكار الفنان؟
الأدوات والخامات مهمة جدّاً للفنان، أحب استخدام الخامة في البداية الأكريليك وأفضل الألوان الخفيفة، بعد ذلك أبني عليها الكتلة اللونية، وأيضاً أحب الأكوريل. أستخدم سكينة البالتا والفرش، وأحياناً أستخدم قطعاً من الجلد أقصها وأستخدمها كأداة تساعدني على عمل الكتلة اللونية التي أريدها على اللوحة، والتي تعطيني الإحساس الذي أشعر به والذي يخدم الموضوع.
الأكريليك والزيت هما الخامتان الأساسيتان اللتان أستخدمهما، ولكن الأكريليك في المرتبة الأولى؛ لأنه يعطيني الفورم أو الشكل الذي يشبع رغبتي.
❃ استلهمت أعمالك من مشارب مختلفة مثل أساطير فرعونية مثل إيزيس، والتراث النوبي والفن الشعبي والإسلامي والقبطي، ماذا استفدت من هذه المشارب المختلفة؟
أستلهم أعمالي من الأساطير والفن الفرعوني، وأشكال التراث المختلفة مثل التراث النوبي؛ لأن التراث مادة ثقافية خام مليئة بقصص وعناصر وألوان، وتشكيلات وتصميمات تؤثر في الفنان، وتصبح مخزوناً ثقافياً له، وهذا يظهر بطريقة تلقائية على سطح اللوحة الفارغ، وأبدأ في التفكير في الفكرة والتصميم.
كل معرض أقيمه يكون مبنياً على خصائص معينة، على سبيل المثال معرض "إنها إيزيس" كان كله مستوحى من الفن الفرعوني، مع دخول بعض الزخارف الإسلامية وبورتريهات نوبية، في هذه اللوحات أخذت العناصر الفرعونية، وبدأت أوظفها مع الأشكال الحديثة، وكانت النتيجة جيدة، المعرض التالي كان مستوحى من الثقافة المصرية والفن الإسلامي، وكانت فيه زخارف ومبان وبورتريهات.
لكن المعارض الحديثة لي المتكررة والورش الجماعية كانت مختلفة، في المرحلة الأخيرة بدأ الفكر ينضج أكثر، وبدأت أرسم من وحي خيالي المطلق دون ارتباط بالموروث الثقافي. كانت أعمالي عبارة عن أشكال هزلية. خرجت فيها عن النطاق المصري وبدأت أفكر في الخيال، وبدأت أتناول شخصياتٍ مثل البلياتشو، وأشكالاً مركّبة أكثر أهتم فيها بالجانب النفسي.
بدأت أهتم بالانفعالات الشخصية أو الأحوال الاجتماعية في الوسط المحيط بي، وحاولت تجسيد الحياة اليومية بشكل هزلي استعراضي لطيف خالٍ من الكآبة، أستعرض في اللوحة أي حالة من الحالات الإنسانية، ولكن بشكل لطيف وألوان تبعث البهجة.
حتى لو كنت أعبر عن انفعالات حزن أو غضب، أو استياء من شيء ما أو أي تعبيرات إنسانية، أوظفها بشكل إبداعي أكثر وبحلول إبداعية عن طريق توظيف خياليّ، وهذا عالم جديد أشعر أنه يتكون بداخلي، وأعبر عنه في هذه المرحلة الفنية.
الرسم العفوي بدون تفكير مسبق بخيال فتح لي مساحة أوسع، أكبر بكثير من المساحة الواسعة للموروث الثقافي للحياة الملموسة المرئية. وجدت عالم الخيال أبرح وأوسع وأكثر حرية، يمنحني حرية في التعبير جميلة ومفرحة لي أكثر من الواقع، ووجدت أنني أرسم ما أريده بشكل يرضيني، ليس بنسبة 100% لأني أشعر أن اللوحة المقبلة يمكن أن ترضيني أكثر.
❃ ماذا يمثل اللون لك، وما اللون المسيطر على أعمالك؟
أحب كل الألوان، ولكن هناك لون مميز عندي أول ما أضعه على باليتة الألوان، وأعطيه اهتماماً خاصاً، وهو اللون الأصفر، وهو لون يدخل في أشياء كثيرة، أحبه لأنه مصدر الضوء عندي، مع قليل أو كثير من الأبيض هذا هو الضوء، ومع قليل من الأحمر أو برتقالي قليل من الضوء، ويمكن أن يعطيني ذلك ضوءاً أزرق، ولكن الأصفر يفتح اللوحة، يمنحها الطاقة والنشاط والحيوية، أحب كل الألوان، ولكن عندما يدخل الأصفر عليها أحصل على انعكاس اللون، ويتضح اللون أكثر.
❃ ما رأيك في العلاج بالفن، وماذا يمكن أن يقدم هذا العلاج للكبار والصغار، وماذا يمكن أن يقدم هذا العلاج للكبار والصغار؟
أؤمن بالعلاج بالفن، وهو نوع مهم من العلاجات الحديثة، يحتاج دراسة ووعياً ومتخصصين، بالذات مع الأطفال؛ لأن الكبار يمكن أن تكون حالاتهم معقدة وأصبجوا يتأقلمون مع أمراضهم النفسية، وحلول الأمراض النفسية تصبح صعبة، ولكن الطفل سهل جدّاً أن نشكله بحلول فنية إبداعية بسيطة، فمن خلال رسوماته نعرف حالته المرضية، فنطلب منه مثلاً أن يرسم موضوعاً معيناً، ونضع ألواناً محددة أمامه، ومن خلال اللون الذي يختاره نعرف مشاعره وأفكاره وطموحه؟ وما المشكلة النفسية التي يعاني منها، ومن خلال الخط نعرف ماذا يعاني؟ من خلال التصميم الذي هو عبارة عن رسم نعرف ماذا يفكر ومكامنه النفسية؟ وبالتالي يمكننا تحديد العلاج.
❃ مادور المكان والزمان في رسم اللوحة؟
الزمان والمكان عنصران مهمان يؤثران في الفنان، الزمان مهم في ناحيتين، فلو كنت تعيش في مكان وأردت رسم صور من الطبيعة، الزمن مهم جداً، والزمن هنا هو الوقت، الصباح أو الظهر أو الليل، كما أن التوقيت يولد الإضاءة التي تؤثر على اللوحة.
أما الزمن الذي أستغرقه في إنجاز اللوحة فيتوقف على الحالة النفسية والفكرة ومدى حضورهما، إذا توفرت الفكرة والحضور والحالة النفسية يمكنني إنجاز اللوحة في يوم واحد. لو أنا مشتتة الذهن ولدي أكثر من فكرة، وهذا كله يأخذ الوقت، وتستغرق اللوحة يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً.
أضف إلى ذلك مساحة اللوحة، إذا كنت أرسم لوحة كبيرة تأخذ مني أسبوعاً، المساحة أو الفكرة أو الحالة النفسية أو المزاجية أو التوقيت، تحدد توقيت إنهاء اللوحة. اللوحة يمكن أن تأخذ ساعة أو ساعتين أو أسبوعاً، وأحياناً أقلب اللوحة وأعود لها بعد شهر، وبعد ذلك أشاهدها فأرى فيها أشياء جديدة، فأنهيها خلال ساعة أو ساعتين.
❃ يرى البعض أن الفن التشكيلي فن المثقفين، وفن المعارض والقاعات الفخمة، كيف يدخل الفن التشكيلي البيوت العربية؟
الفن التشكيلي لغة عالمية تتواصل مع كل الناس، من كل الطبقات والأعمار، هناك من يرى أنه فن الطبقات المثقفة، وفي المقابل هناك من يرى أنه فن بسيط جدّاً، وذلك حسب الثقافة، والمكان، ووجود الفن التشكيلي من عدمه. الفن التشكيلي أنواع، ليس فقط السيريالي الغامض، تراه فلا تفهمه ولكن تشعر به، تقرأ اللوحة فتشاهد هذا الخط، وتعرف ما الذي يمثله لك. ستفهمه حتى لو كنت غير مثقف. ولكن هناك لوحات بسيطة جدّاً، المنظر الطبيعي فن تشكيلي، البورتريه كذلك، يمكن أن يصل بسهولة لأي شخص غير مثقف تشكيلياً، يتوقف ذلك على نوع الفن وطريقة تقديمه، ففي حالة الإنسان البسيطة علينا أن نسأل.. ما رأيك في اللون؟ وكيف ترى هذا الشكل؟ طريقة التقديم مهمة في إيصال الفن لتلك الفئة.
ليس شرطاً تقديم الفن التشكيلي في قاعات فخمة، يمكنني تقديمه في أماكن بسيطة، في ممرات، وشوارع، ومناطق سياحية تمتلئ بالناس.. ولكي ينتشر الفن التشكيلي سواء في المجتمع العربي أو العالمي، يجب أن نبسطه ونقدمه في مناطق تواجد الناس، ونعلمهم كيف يتذوقون العمل الفني البسيط غير المعقد أو المركب بسهولة، والفن في الأساس ليس غريباً، فهو موجود في بيوتنا وشوارعنا وملابسنا وشكل طعامنا، وتعاملاتنا اليومية، السيدة التي تجهز طعامها تحرص على أن يكون شكله جميلاً، الفن موجود وسهل.
❃ رسمت على وسائط مختلفة مثل الحوائط والقوارب، كيف كانت هذه التجربة؟
هذه تجربة ممتعة جدّاً؛ لأني رأيت فني مجسماً في شيء جمالي، أقدر على لمسه من كل اتجاه، وأقدر أيضاً أن أعمله على شكل نحت، وأشخاص يمرون فيرونه، يتعايشون معه سواء كان على حائط أم سقف، على باب، أو طبق فخار، أو أشكال مختلفة.
كانت تجربة لطيفة جدّاً، تفاعل معها الناس، وكانت خروجاً للفن من الأربعة جدران ليتحرك ويأخذ أشكالاً جديدة.
❃ برأيك هل عبر الفن التشكيلي عن بوح المرأة العربية؟
الفن التشكيلي قادر على البوح اجتماعياً وسياسياً، عن الرجل والطفل والمرأة والبيت، متى ما كان الفنان صادقاً مع نفسه، سيتمكن من إيصال كل هذه الرسائل، والتعبير عن كل الأحوال، الحياتية والكونية والدينية، وكل شيء حوله بمنتهى البساطة لتصل للمتلقى بطريقة أكثر بساطة، المهم أن يكون الفنان صريحاً وعفوياً يرسم من قلبه، يستوحي من خياله، تتداخل معه ثقافة وذوق جميل.
❃ ما الرسالة أو القضية المحورية التي ترغبين في إيصالها من خلال الفن؟
أحب توصيل فكرة مهمة جدّاً في أعمالي الأخيرة بالتحديد، وهي أن الأحوال النفسية المركبة من قديم الأزل، المشاكل الحياتية التي نشعر أحياناً أنها معقدة، وأن ليس لها حلول، أؤكد من خلال فني أن هناك حلولاً لها، حلول أبسط من ذلك بكثير.
أريد أن أؤكد أن التعايش مع الذات والمصارحة معها، والتعايش مع الأخطاء التي يمكن أن نرتكبها في أي وقت، وأي مكان دون قصد، أو العيوب الإنسانية الموجودة فينا، وأقول لكل إنسان: تعايش وحب نفسك وحب الآخر وحب الحياة. من خلال الفن أريد القول إن كل شيء حولنا جميل، والله خلقه لإسعادنا.
في أعمالي الأخيرة بالتحديد، أحاولت أن أبعث بهجة وحباً وتعايشاً مع الآخر بسلام، وأقدم حلولاً ذاتية لأي مشاكل شخصية، من خلال أعمالي الفنية المركبة أو البسيطة أقدم حلولاً جمالية لأي مشكلة قد تحدث بيني وبين الآخر، عندما يراها المتلقي يشعر بالبهجة والسكينة والروح الإيجابية.
❃ لك تجربة في تعليم الفن التشكيلي والخزف والأعمال اليدوية، حدثينا عن هذه التجربة؟
هذه تجربة جميلة في تعليم الفن، أعلّم الأطفال الرسم بالألوان والرصاص والفحم، وتشكيل الخزف، والإبداع باستخدام خامات مختلفة، هذا هو البعد الظاهري، ولكني في الحقيقة كنت أتعلم منهم، وأستوحي نقاطاً مهمة بدايةً لأعمالٍ جديدة.
من خلال الأطفال بدأت أرى الخيوط والأشكال البسيطة التي يتخيلوها، ويبدأون في رسمها من وجهة نظرهم، هم لا يرون ما أراه، ينظرون بعيون مختلفة، بطريقة أبسط، أنا لأنني أعرف الحقيقة والتفاصيل أبدأ في إضافتها، أما الأطفال فيلخصون التفاصيل من خلال تجاربهم البسيطة، يشاهدون الأشياء بعيونهم التي لا تملك الخبرة والتي لم تتداخل بها مشاكل أو تجارب كثيرة، وذلك منحهم طاقة إيجابية، وقدرة على التعبير عن كل الأشكال والألوان بعفوية.
تعلمت من الأطفال أكثر مما تعلموا مني، تعلمت منهم البساطة وعدم التفكير كثيراً، وأن لا أنظر للتفاصيل التي ستسبب مشاكل كثيرة تربكني. علمتهم أصول كل شي، حروف الهجاء، وبدأوا يكتبون، فتعلمت منهم الكتابة.
ــــــــــــــــــــــــــ
ـ نشر بمجلة الرافد