أتعس نظام صنعه الإنسان هو "الوظيفة"، أن تعمل لدى شخص أو شركة في وظيفة ما مقابل راتب شهري . السبب أن الوظيفة رغم ما تكفله للموظف من دخل شهري يؤمن به احتياجاته المعيشية، إلا أن لها وجه آخر مريع.
الوظيفة نوع من الاحتكار، .. تحتكر الشركة جهودك في مجال محدد لمدة محددة، مقابل مبلغ ثابت تصرفه لك آخر كل شهر، ورغم أن الاحتكار شيء مسلم به في أي وظيفة، إلا أنك لا تشعر به، وتمضى السنوات ، ويمضى العمر ، وأنت في وظيفة واحدة، تعمل نفس العمل كل يوم، حتى تفاجأ بالشعر الأبيض، عندما تتقاعد أو تخرج على المعاش .
يتجلى هذا الاحتكار في مظاهرة عدة، مثل العمل ساعات محددة، وأيام محددة، وتنفيذ مهام محددة، لا خيار لك، والتغيب أو التقاعس لأي سبب يعرضك للمساءلة، وأيضا منعك من العمل في شركة أخرى خلال فترة التعاقد، وفي كثير من الأحيان بعدها، وفقا لقانون عدم المنافسة، الذي يلزم الموظف بعدم العمل في شركات منافسة، حتى لو ترك الوظيفة.
والإحتكار أيضا في الحصول منك على الجهد الذي يطلب منك فقط، فليس لديك الحرية لتقديم أي شيء، فقط تؤدي ما يطلب منك، حتى لو لم تكن مقتنعا به، ولذلك ظهر التعبير الشعبي الذي يقول "اربط الحمار مطرح ما يعوزه صاحبه". وقد يصل الأمر إلى حدود لا يمكن تصورها ، فمثلا هناك قانون داخلي في جوجل يحظر على الموظف التصريح بقيمة راتبه، حتى لوالده.
والوظيفة لا تحتكر فقط جهودك ووقتك، ولكن تحتكر ماهو أهم وهو مستقبلك، وأحلامك، فليس لك أن تحلم وتسعى لتطوير قدراتك وحياتك المهنية . الأمر مرهون بمشيئة صاحب العمل أو مديرك، أو رئيسك المباشر.
يحدث هذا أحيانا، رغم أن صاحب العمل قد يكون أقل تعليما منك، أوأقل وعيا وقدرة، وفي بعض الأحيان أقل فهما، أي ـ أعزك الله ـ "حمار"، .. هكذا قدرك . وجهك مثبت أمام الشاشة، لا تتحرك يمنة أو يسرة، وفوق رأسك كاميرا مراقبة، تمشي ـ كما تقف عندما يقف رئيسك، وتجلس عندما يجلس، تمشي وفقا للمدير مشية السلحفاة، حتى لو لديك القدرة على الطيران .
يقول الدكتور طارق سويدان "ياشباب، اعملوا مشاريع خاصة ، لا تعيشوا على الوظيفة، الوظيفة عبودية، عيشوا أحرارا، هناك نوعان من الأعمال: أعمال حرة، وأعمال عبده، الموظف عبد، من هو العبد؟، في الزمن السابق العبد هو شخص يملكه شخص آخر، يتحكم به، ممنوع العبد يدخل ويخرج إلا بإذن سيده، ممنوع يسافر إلا بإذن سيده، ممنوع يصدر قرار أو يتصرف إلا بإذن سيده، وسيده يعطيه بضع فتات في السابق يسمونهم عبيد، الآن يسموهم موظفين".
في الوظيفة، في كثير من الأحيان، تنسى كل الأحلام التي عشتها منذ البداية، حلمك العاجز .. عصفورك الجريح أصبح مرهونا بقفص صاحب العمل. لا يمكن أن يتجاوزه قيد أنملة . يقول رجل الأعمال كيفن أوليري "راتبك هو المخدر الذين يعطونه لك مقابل أن تنسى أحلامك"
والاحتكار بمفهومه العام نوع من الإذعان، وقد رأينا جانبا من ويلاته في المجال الفني، عندما تحتكر شركة فنية فنانا مقابل مبلغا كبيرا من المال، ثم تضعه في الثلاجة ، بمعنى تمنعه من التعامل مع أي جهة ، والظهور في لقاءات تلفزيونية أو الإدلاء بأحديث صحفية، أو حتى الغناء في عيد ميلاد ابن صديق، وهكذا ضاعت على الكثير من الفنانين فرصا كثيرة في النجاح والتألق.
الوظيفة قد تكون الحل الذي لا مفر منه الذي يكفل تنسيق الأعمال وتوحيد الجهود وإعمار المجتمع، ولكن شريطة الحفاظ على حقوق الموظف ، وأهمها حقه في الحلم والارتقاء، ولكن الوظيفة بهذا المفهوم غير موجودة في العالم العربي، حيث الأنظمة الإدارية المهترئة، والمزاجية، والواسطة، وحيث تسير كثير من المنظمات بالبركة .
الوظيفة الصح خالية من الكافيين أقصد الاحتكار، تحافظ على مشاعر الموظف، وتوفر له الإمكانيات للتوفيق بين عمله وحياته الشخصية، وتطلق سراح حلمه ليحلق في الآفاق.
يفضل كثيرون الوظيفة، مرددين المثل الذي يقول "إن فاتك الميري تمرغ في ترابه"، بدعوى تأمين المستقبل الهاجس الأساسي في الشخصية العربية، رغم أن لاشيء في الحياة مضمون، ولكنك لا تدرك أنك بذلك تحكم على مستقبلك بالإعدام ، وتسلم بإرادتك حبل الطوق الذي يحيط بعنقك إلى مالكك الجديد.
إمبراطورية الوظيفة انهارت، وظهرت نماذج جديدة للعمل، مثل العمل المستقل، والعمل الجزئي، والعمل المؤقت ، والعمل عن بعد، والعمل أربع أيام في الأسبوع، وبدأت حركة عالمية لتحرير العمل.
في العالم الجديد تآكلت الوظيفة، وانهارت الأنظمة البيروقراطية العتيقة، وإفرازاتها البائسة : الدوام 8 ساعات، والسلم الوظيفي، ونظام الدرجات، وتعلم أصحاب الأعمال الأدب، وأصبحت رفاهية الموظف في المقدمة. في العالم الجديد تآكلت الوظيفة وتحررت الموهبة الإنسانية بعد قرون من القمع الوظيفي، وأصبح أخيرا للابداع القول الفصل.