تؤمن الكثير من الدول بأهمية الثقافة، وترصد لها الميزانيات، وتخصص لها وزارات وهيئات، تنظم التظاهرات الفنية والثقافية، ولكن تظل الثقافة بها في كثير من الأحيان مادة تثقيفية وتعليمية وترفيهية، بعيدة عن حياة الإنسان.
إمارة الشارقة حققت المعادلة الصعبة، وأكملت الحلقة المفقودة، فقد عظّمت من قيمة الثقافة، وخصصت لها الأبنية والتجهيزات، ونشرت الكتب في كافة حقول المعرفة، وكرّمت المبدعين، وأقامت المؤتمرات والفعاليات، ونظمت المسابقات والمنافسات التي تساعد المبدعين على التطور والإرتقاء، وأبدعت وابتكرت في التنظيم الثقافي، ولم تكتف بكل ذلك، ولكنها جعلت الثقافة أسلوب حياة.
المنجز الحقيقي للشارقة في رأيي أنها حولت الثقافة إلى منهج مجتمعي، والمقصود بذلك تحويلها من قيم محفوظة إلى ممارسات وعادات يومية، من مسؤولية حكومية إلى مهمة يشارك فيها الجميع.
والثقافة هي حصيلة التجارب والمعارف والقيم والسلوكيات والمعتقدات التي كونتها الأمم على مر العصور، والتي تمثل هويتها وبصمتها الاجتماعية التي لا تتكرر، وهي نتاج مستمر ومتراكم من جيل إلى آخر، لذلك فإن المجتمع يقع في قلب المعادلة الثقافية، ولا ينفصل عنه.
مع تسليمي بالأدوار المهمة للإبداع والتي تتوزع بين الأدوار الجمالية والقيمية، فإن الدور النهائي للثقافة تطوير المجتمع. يعرّف عالم الاجتماع برونيسلاف كاسبر مالينوفسكي الثقافة على أنّها وسيلة تحسّن من وضع الإنسان، حيث يستطيع مواكبة التغيُّرات الحاصلة في مجتمعه أو بيئته عند تلبية حاجاته الأساسية.
وفي خضم التطور المتتابع الذي يشهده العالم، والذي قد يأتي بتغييرات سلبية وإيجابية، فإن التهديد الأول للمجتمعات يستهدف الثقافة، لذلك من المهم تقوية الجذور الثقافية للأمة، حتى لا تقتلعها الرياح العاتية، وهذا مافعلته الشارقة.
الثقافة ليست ترفا أو نشاطا إداريا، أو مكملا غذائيا، ولكنها مقوم أساسي من مقومات المجتمع، وأداة مهمة لتنفيذ الأمر الإلهي بإعمار الأرض، وهي قضية اجتماعية بالدرجة الأولى، وهذا ليس غريبا، فالسلوكيات المرورية ثقافة، والمعاملات الانسانية ثقافة، والاقتصاد ثقافة، حتى طريقة الأكل وأدبياته ثقافة، والتغيير الإيجابي لا يبدأ إلا بها..
لقد وضعت الشارقة الثقافة في موقعها الحقيقي في دورة الحياة اليومية، وأدركت أن القيم الثقافية يجب أن تنتقل من الكتب إلى حياة الناس، فحولتها إلى سلوكيات يمارسها الناس في البيت والعمل والشارع، فكانت النتائج عظيمة.
ولم تكتف الشارقة بالعمل في الداخل، فمدت يدها إلى كافة الدول، ونشرت قناديل المعرفة الخضراء في كل اتجاه، فكشفت بذلك عن رؤية ثاقبة لمعنى الثقافة الحقيقي الذي يجهله الكثيرون، فالثقافة رسالة عالمية، مسؤولية إنسانية مشتركة كالأرض والمناخ والصحة العالمية.
لقد آمن سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي مبدع رؤية الشارقة الثقافية أن الثقافة فاتحة للتقدم والنهضة واستعادة المجد العربي، فقدم نموذجا فريدا للحاكم الأديب، وأطلق تجربة أولى للإدارة الثقافية التي تبنى الإنسان، ودشن معجزة ثقافية.
والثقافة في الشارقة ليست مجرد أنشطة وفعاليات في الأماكن الثقافية، ولكنها روح نابضة تشعر بها في كل مكان، فتجدها في المساجد التي تتجلى فيها العمارة العربية والاسلامية، وفي المتاحف التي توثق الحضارات، وفي الميادين والشوارع التي سميت بأسماء شخصيات أدبية وثقافية، وحتى في القرارات الرسمية التي تعني بالأسرة والمجتمع مثل قرار قصر أيام العمل على أربعة أيام.
تجربة الشارقة في الإدارة الثقافية تجربة عربية اسلامية رائدة يجب أن تُدرّس، وتكون نموذجا يحتذى في إدارة المدن، ليس في العالم العربي فحسب، ولكن في العالم، وأن نرى المزيد من المدن التي تعظّم الثقافة، ليس فقط بنشر الكتب وتنظيم الفعاليات الأدبية والثقافية، ولكن بتحويل الثقافة إلى تجربة وسلوك وأسلوب حياة.