شمس الحرية تطلع على ميدان التحرير، فتغمر المتحف المصري، وتمثال عبدالمنعم رياض، وماسبيرو، والمباني والشوارع، والميادين، والأحياء الشعبية، والمدارس، وتبعث الدفء في أوصال البيوت.
شمس أخرى تصافح وجوه الشباب، وتلقي تحية صباح على الثوار، والأحرار، البنات، والسيدات، والأطفال، وكبار السن، الأغنياء، والفقراء، ومتوسطي الحال، شمس ثالثة تحنو على وجوه المعتصمين المتعبة الذين يفترشون العراء، ويتوسدون الأحجار والأرصفة، والذين أقسموا بعدم العودة إلى بيوتهم إلا بعد سقوط النظام، دماء الشهداء تبعث في المكان عبقا غريبا كرائحة البخور، وتزهر أوراقا، ووردا، وفلا.
شمس رابعة ظهرت في جبين فتاة مصرية محجبة خرجت لتهتف بكل قوة "يسقط النظام"، وشمس خامسة صغيرة وجدها طفل صغير في جيبه المليء بقطع الحلوى والأحجار.
اليوم كسر المارد المصري قيده الأخير، ونهض ليزلزل كوكب الأرض، المارد الذي كان مقيدا ثلاثين سنة بالعجز، والوهم، والظلم، والفساد يخرج من مصباح علاء الدين ويقول للشعب البسيط الجميل "شبيك لبيك".
اليوم تتأكد لنا مقولة أبي القاسم الشابي الذي قال "إذا الشعب يوما أراد الحياة .. فلا بد أن يستجيب القدر".. لم يكن الأمر مجرد بيت شعري مزدحم بالاستعارات والعبارات الحماسية، ولكنها كانت نبوءة شاعر عربي أثبت التاريخ أنها تتحقق طالما وجدت إرادة الشعوب.
سطر المصريون في 25 يناير 2011 صفحة جديدة من التاريخ، مليئة بالفخر، والعزة، والكرامة، والوحدة، والإباء، ورأى العالم لأول مرة المصري الحقيقي ببساطته، وعفويته، وعزة نفسه وإصراره على الحياة.
كسر المصريون حاجز الخوف، وهذا هو المنجز الحقيقي لثورتهم، فواجهوا هراوات الجنود والرصاص الحي والمطاطي والقنابل المسيلة للدموع بصدورهم، وقدموا ما يمكن أن نسميه ثقافة التظاهر، لقد شهدنا على شاشة التلفاز كيف يسرع الشاب ويمسك بجرأة بالقنبلة المسيلة للدموع قبل أن تنفجر، ويعيد قذفها على الجنود فتنفجر أمامهم. رأينا كيف يستخدم المتظاهرون الإسبراي الأسود لتظليل المساحات الزجاجية الصغيرة لمدرعات الجنود فيحولها إلى كائن أعمى لا يرى.
رأينا كيف كان الشباب يواجهون تأثيرات الغاز المسيل للدموع، بغسل الوجه بسائل البيبسي، ويستمرون في التظاهر ومواجهة قوات القمع الأمني التي فوجئت بنوعية جديدة من الشباب لا يستطيع أن يوقفهم أحد ، يشبهون العفاريت.
في ثورة يناير رأينا الشعب المصري بكل طوائفه، بمسلميه ومسيحييه، بمعارضيه ومؤيديه، بفقرائه وأغنيائه، وبكل توجهاته السياسية، حتى من لا يملك توجها، وهؤلاء الذين يتظاهرون لأول مرة، يجتمعون على قلب رجل واحد، ولهدف واحد، وهو التغيير للأفضل.
عائلات خرجت بنسائها وفتياتها وأطفالها الصغار للتظاهر ليعلموا أولادهم الثورة ضد الظلم والطغيان. رأينا كيف ينام الرجال بأجسادهم أمام جنازير الدبابات لمنعها من الحركة وتقليص مياحة التظاهر.
رأينا الشباب يقف بشجاعة أمام المدرعات ورشاشات المياه، بل ويقفزون عليها دون خوف، كما يقفزون على عربات الملاهي. شاهدنا الفرق الشعبية التي كونها الشباب والرجال والسيدات للحفاظ على الممتلكات.. كل منهم يحمل سكينا، أو حجرا، أو مقشة، أو سلاحا للدفاع عن النفس والوطن من المخربين.
رأينا كيف ينظم الشباب المرور، ويفتش السيارات المدنية وسيارات الشرطة والإسعاف، للتأكد من عدم وجود عناصر مخربة مشبوهة، وكيف كانوا يتناوبون الحراسة على المنازل والأحياء على مدار اليوم لضمان أمن المجتمع. بعد أن حاول النظام أن يثير الفوضى في المجتمع ليؤكد نظريته القديمة التي خدع المصريين بها طويلا، وهي ثنائية النظام أم الفوضى.
رأينا كيف يتفنن المصريون في أساليب التظاهر، فهناك من كتب عبارات احتجاجية على وجهه وجبهته، أو قطعة قماش، أو قطعة من الكرتون. رأينا العديد من عبارات الاحتجاج العفوية التي تؤكد خفة دم المصريين حتى في هذه الأوقات العصيبة.
شاب رفع لافتة مكتوب عليها "باي مبارك .. موبايلات بقى"، وآخر رفع لافتة تقول "إنجز .. عاوز أحلق"، وثالث رفع لافتة تقول "نقابة النجارين تسأل الرئيس مبارك عن نوع الغراء الذي يستخدمه في اللصق مع الكرسي"، ورابع يحمل لافتة مكتوب عليها عبارة "طبيب أسنان جاء ليخلع مبارك"، وخامس يرفع لافتة عليها عبارة "ارحل عشان عاوز أروح أستحم" وسادس يجلس على الأرض يرفع لافتة عليها عبارة "ارحل إيدي وجعتني". وسابع يحمل لوحة مكتوب عليها عبارة "ارحل بالعربية والهيروغلوفية".
ومن المظاهر الفريدة التي تؤكد عظمة هذا الشعب القادر دائما على التعبير عن موقفه السياسي بالموقف والصوت والزي والإشارات والفن والرسم والغناء ، مشهد العروسين اللذين لم يجدا أشرف وأنبل من ميدان التحرير لكي يعقدا قرانهما فيه وسط ابتهاج المتظاهرين.
ورغم حشود المتظاهرين الذين بلغت أعدادهم التقديرية في يوم التنحي 20 مليونا في كافة مناطق مصر. ومع تنوع فئات المتظاهرين، لم تحدث جريمة واحدة. الكل كان يتحرك من أجل هدف واحد وهو الحرية.
أثبت الشعب المصري العظيم أنه ليس فقط متفوقا في التعليم، والهندسة، والري، والعمارة، والبناء، والفنون، والمسرح، والفكاهة، ولكنه أيضا متفوق في الثورات، لقد نجح في قيادة ثورة شعبية سلمية عظيمة، سيكون لها تأثيراتها ليس على مستوى مصر فقط، ولكن على العالم العربي، والعالم كله، وهي الثورة التي وصفتها صحيفة الجارديان البريطانية بأنها "أعظم الثورات".
تحية إلى أرواح الشهداء والشباب الذي قدم أرواحه رخيصة من أجل الثورة، تحية لشباب مصر الواعي الذي قاد بوعيه وثقافته وأصالته ومعدنه النبيل هذه الثورة التي ستكون ملهمة للعديد من الأمم التي مازالت ترزح في القيد.