تتفشى في العالم العربي ظاهرة "استغلال السلطة"، وعندما أتحدث عن السلطة هنا أقصد السلطة بمفهومها العام، أي إنسان يمنح سلطة معينة، سواء أكان رئيسا لدولة، أو مديرا لمؤسسة، أو حتى مدرسا في فصل منحته القواعد الوظيفية سلطة ما على مجموعة من التلاميذ.
هناك حديث دائم عن "استغلال السلطة" في العالم العربي، وحتى نكون منصفين فإن هذا النوع من الاستغلال ليس مقتصرا على العرب، فهو موجود في كل العالم، وإن كان يأخذ في ديار العرب زخما خاصا، لاعتبارات اجتماعية وثقافية.
واستغلال السلطة وفقا لمدلول المصطلح تعبير يقصد به انحراف الشخص عن مهام السلطة المخولة له، واستغلالها في منافع خاصة، كالمسؤول الذي يستغل منصبه ليمنح إحدى شركاته أراضي شاسعة من ممتلكات الدولة بسعر رمزي، وضابط الحدود الذي يستغل سلطته لتمرير شحنة مخدرات، ويقبض الثمن، والأستاذ الجامعي الذي يتجاوز حدود مهنته ليغرر بطالبة.
أي سلطة لها حدود، تعمل في إطارها، وإن كان لدينا في العالم العربي أيضا حالة غريبة من تداخل السلطات، وفيها تتداخل سلطة جهة معينة مع جهة أخرى، وبين هذه وتلك يضيع المواطن في البحث عن حقه، وهذا التداخل يكون دائما نموذجا على التخبط الإداري التي تعاني منه بعض المجتمعات.
كل سلطة لها حدود إذا تجاوزها صاحبها أصبح خارجا على القانون، حتى الأنبياء لهم حدود معينة يعملون من خلالها، والسلطة المطلقة لا تتوفر إلا لله عز وجل خالق كل شيء، يقول تعالى "خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ". الله هو الوحيد الذي بيده مقاليد كل شيء، قال تعالى "فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيده مَلكوت كُلّ شيء وإليهِ ترجعون"، ولكن النفس الإنسانية التي تتكون من الخير والشر، لقوله تعالى "فألهمها فجورها وتقواها" كانت تجنح دائما للتجاوز ونهب المزيد من السلطات، حتى إن البعض ـ والعياذ بالله ـ يحاول أن يأخذ سلطات الله.
ولا أدري ماذا نفعل لإصلاح هذا الوضع، هل نشذب السلطة كما يشذب البستاني الشجر، لتبدو أكثر تنسيقا وتنظيما؟ .. هل نحلق لها كما يفعل الحلاق فتكون منورة وتظهر في أفضل صورة؟، أم نقلم أظافرها حتى لا تخربش الناس وتجرحهم؟، أم ترى أن الحل هو مراقبة السلطة كما تفعل بعض المؤسسات كمجالس الشورى التي تصدر التقارير التي تصحح عمل السلطة ومؤسساتها؟ ، هل ندعم المعارضة، ونطلق حرية تكوين الأحزاب، لضمان وجود معارضة حقيقية تنتقد النظام وتقومه؟، أم ترى نقسم السلطة ـ كما نفعل مع البطيخة ـ إلى نصفين، لكي نحد من التعسف السلطوي، ونشرك أكبر عدد في الوليمة؟ ، تطبيقا للمثل الشعبي "الذي يأكل لوحده يزور"؟.
تجميل السلطة لن يفيد، لأنها لو خرجت من غرفة العمليات، ستظل قبيحة لأن داخلها قبيح، وإذا قلمنا أظافرها، ونزعنا أنيابها للحد من خطرها، لن نضمن النتيجة، فربما تنبت لها أظافر وأنياب أخرى فتصبح أكثر توحشا وضراوة، وإذا كثفنا من عملية مراقبة السلطة بإنشاء المؤسسات التي تراقب عملها، فإن الأمر وإن كان وجيها من الخارج، فإن التطبيق أثبت أن هذه المؤسسات نشاط روتيني يقنن الفساد ويبرره، وينقذه عند الحاجة إذا لزم الأمر، وليس فضحه وكشفه واقتلاعه. أما سلاح المعارضة فقد أثبت أنه في كثير من الأحيان سلاح خشبي، وأن الأحزاب تقوم في بعض الأحيان بدور "المضلل"، للنظام.
تقاسم السلطة صعب في العالم العربي، لأن السلطة العربية ـ حتى في مستوياتها العادية كسلطة مدير الشركة أو المدرسة ـ تعتمد على فكرة الفردية والأنانية والديكتاتورية، والسلطة فيه تعني هذا الإحساس الوهمي اللذيذ بالتفرد والتحكم والسيطرة، ففي العالم العربي يغيب مفهوم "العمل الجماعي"، وتعني السلطة قرارا واحدا يتخذ بعيدا عن الشورى أو استطلاع الرأي . وربما يكون ذلك هو لب المشكلة.
السلطة لدينا فردية، وهنا مكمن الخطأ، حيث يمنح الفرد سلطات كبيرة، وهذا يشجع على الخطأ والانحراف، حتى في المفهوم الديني فإن الشيطان بإمكانه بسهولة أن يوسوس لفرد، ويصور له كافة أنواع المغريات، والذئب لا يفترس إلا الغنم الشاردة، على سبيل المثال يمنح المدير سلطات واسعة على موظفيه، فيسيء استخدامها فيعلي من قدر من يروقه، ويبطش بمن لا يستلطفه، ويمنح الزوج سلطات واسعة على زوجته وأبنائه، فيمارس معهم شتى صنوف القهر والإذلال والعنف، ويمنح المواطن سلطات كبيرة على خادمته، فيطبق عليها أمراضه النفسية، ويضربها ويسلخ رأسها ويكسر ضلوعها، وفي بعض الأحيان يقتلها، ويضع جثتها في حاوية القمامة.
الحل هو أن نستبدل سلطة الفرد بسلطة الجماعة، وذلك بتحويل سلطة الحاكم من سلطة فردية إلى سلطة مؤسسات، كما يحدث في أميركا عندما تتحكم المؤسسات في القرار، وليس الرئيس، وفي نطاق العمل تحول سلطة المدير الفردية إلى سلطة مؤسسية تشترك فيها الإدارات، والنقابات المهنية، ويشارك فيها العاملون.
في بعض دول الخليج يتسبب نظام الكفالة في مشاكل عدة، والسبب السلطات الكبيرة الممنوحة للكفيل، وهي في النهاية سلطة فردية، ولو تولت الدولة أمر ذلك لاختفت المشاكل التي تعاني منها أعداد كبيرة من العمالة العربية، والتي تمتلئ بها ملفات الملحقيات العمالية في السفارات.
وفي نطاق الأسرة يجب أن تتحول سلطة الرجل من سلطة فردية إلى سلطة جماعية تشارك فيها الدولة ومؤسساتها المختلفة كما يحدث في أميركا مثلا ، فليس من حق الزوج ضرب زوجته، ولو استغاثت الزوجة المضروبة بالشرطة حضرت وألقت القبض على الزوج وألقته في السجن، وحكمت عليه بعدم الاقتراب من سكن زوجته مسافة معينة.
الشيطان يمكن أن يوسوس للفرد، ويشجعه على التجاوز والخطأ، ولكن من الصعب أن يوسوس لجماعة، ومجموعة من المؤسسات. لذلك فإن الحل الوحيد يكمن في تحويل السلطة الفردية بما يكتنفها من أخطار وأمراض وشكوك إلى سلطة جماعية يشترك فيها المجتمع.