أحلم بوحدة العالم، هذه هي النظرية التي أؤمن بها منذ مطلع شبابي، وهي نظرية ليست من اختراعي، ولكنها فكرة حالمة لا بد أن تكون قد شغلت ذهن البعض منذ فجر التاريخ، البعض كان حسن النية يحلم بعالم أكثر أمنا ووعيا وحرية، والبعض الآخر كانت نيته الشريرة تدور حول الهيمنة والسيطرة، وإنشاء عالم "قطاع خاص"، وهي نفسها الفكرة التي جسدتها بعض الأفلام العالمية، عندما يحلم الشرير بالاستيلاء على العالم عن طريق جرثومة، أو غزو فضائي مسلح.
أؤمن بالوحدة العالمية، وكتبت حول هذا الحلم مقالا منذ 20 عاما أسميته "الفكرة المجنونة" ، البعض اعترض، وأوَّل ما كتبته تأويلا خاطئا غريبا، واعتقد أنني أريد أن أنصب أميركا لتكون قائدة العالم، وآخر كتب لي مستفسرا ومشككا وقال: ماذا تقصد، وسرد لي الآية القرآنية الكريمة التي تقول "وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ".
أعترف أن توحد العالم فكرة فانتازية مستحيلة، ولكن من حقنا أن نحلم، لأن الحلم أول خطوة نحو الحقيقة، وكل الأحلام في البداية كانت مستحيلة، كالطيران والتلفاز والصعود للقمر، .. ولكن بمرور الزمن تحققت، واكتشف الناس أنها كانت أحلاما عادية.
يكفي أن نضع البذرة، ونتركها لتنمو جيلا بعد جيل. بدون بذرة توضع داخل التربة وتروى بالماء .. كيف تنتظر النبات؟ المهم الآن أن نقنع الناس بالفكرة لتتحول من مجرد فكرة تحلق في الخيال إلى فكرة تمشي على الأرض.
ومع صعوبة تنفيذ هذه الفكرة إلا أن الواقع يؤكد أنها غير مستحيلة، وإذا كنا قد شهدنا في عصرنا هذا اتحاد 27 دولة فيما سمى بـ"الاتحاد الأوروبي"، فليس من المستحيل أن يتحد 198 دولة في اتحاد عالمي، أضف إلى ذلك أنك وبنظرة أعمق ستكتشف أن العالم بالفعل يقترب ويتحد، وهذه الحركة لا تظهر بالعين المجردة، ولكنها كحركة الخلية لا ترى إلا بالميكروسكوب.
العالم يتحرك ويتحد ببطء، بحركة دودية بدون قدمين، والدلائل على ذلك كثيرة. قارن معي بين العالم قبل 100 سنة وبين العالم الآن، لقد كان العالم في الماضي القريب مجموعة متنافرة من البلدان، لا يعرف مواطن هذا البلد شيئا عن مواطن البلد الآخر، وكان السائح عندما ينزل بلدا من بلدان العالم الثالث ينظرون إليه كأنه كائن قادم من الفضاء، عدا قلة من المعلومات النادرة التي تنتقل عبر وسائل الإعلام المحدودة، أو الإذاعات أو الأشخاص. أما اليوم وفي ظل الانفجار المعلوماتي الذي حدث، .. بعد اختراع الإنترنت وتطور وسائل الاتصال والترجمة، والانفتاح الفضائي أصبح العالم شاشة واحدة.
الوحدة قد تتم بالقوة، وقد تتم بالدعوة، وقد تتم بالترغيب والحوافز، أما بالنسبة للقوة فهذا أمر مستحيل، فالقوة كانت ممكنة من 1400 عام عندما كان العالم كله مجموعة من الممالك المعروفة، والتي يمكن عن طريق جيش مسلح جيدا أن تطلق الغزوات، وتؤرق عروش الملوك والسلاطين، وتضم إليك الممالك، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دانت له الممالك والبلاد.
ولكن اليوم لا يمكن أن توحد العالم بالحرب، فقد زادت مساحة العالم لدرجة أصبح من العسير حتى حفظ أسماء القارات والبلدان التي فيها، وتحولت الممالك المحدودة في الماضي إلى دول وشعوب وأعراق لا حصر لها، وأصبحت الطائرة تستغرق في المسافة بين سنغافورة ونيويورك 19 ساعة طيران متواصلة، وأصبح لكل دولة ترسانة من الأسلحة، التقليدية، والكيميائية، والنووية، والعنقودية، والانشطارية، وظهرت أنواع مختلفة من الحروب مثل "حرب النجوم"، والسلاح الواحد منها يكفي لتدمير العالم.
أما بالنسبة للدعوة فهذه فكرة ستثير الضحك، تخيل لو أصدرت دعوة لكل رؤساء بلدان العالم للانخراط في وحدة أو كيان اتحادي عالمي ماذا يمكن أن يحدث؟ سيقرأ سكرتير الرئيس الدعوة، ويبتسم، ثم يلقيها في سلة المهملات، معتقدا أن هذه الرسالة وردت على سبيل الخطأ، أو وردت من مجنون.
أما الترغيب والحوافز، فيمكن أن تغري دولة بالوحدة مع أخرى، كما تم في عملية توحيد الألمانيتين، ولكن أن يصلح ذلك في إغراء بلدين أو ثلاث فهذا غير ممكن. إذن فالحل إذن في الغزو ، ولكن ما هو نوع الغزو .. ، إذا كان الغزو العسكري مستحيل، فإن الخيار الوحيد الفعال هو الغزو بالفكرة.
غزو العالم بالفكرة، سلاح فعال أثبت جدواه على مر العصور، فالفكرة هي الكائن الوحيد القادر على أن يتحرك بحرية، يتسلل عبر البلدان والقارات، ويجتاز كل الحدود بدون جوازات سفر أو تأشيرات، الفكرة هي الكيان الوحيد القادر على التسلل ـ بدون أن ينتبه الحراس أو تدق أجهزة الإنذار ـ إلى الرؤساء والوزراء والجماهير، وهي المتسلل الوحيد الذي لا يمكن القبض عليه أو اعتقاله أو تعذيبه بالضرب والتعرية والإيهام بالغرق.
الإنترنت نفسه فكرة اقتحمت الحدود، وغزت البلدان، ودخلت البيوت بدون استئذان، .. مواقع التواصل الاجتماعي نفسها فكرة غزت العالم، موقع "فيس بوك" نفسه فكرة جهنمية غزت العالم، واستقطبت حتى الآن 500 مليون نسمة، .. التقنية فكرة، والحرية فكرة، ووحدة العالم فكرة يمكن إطلاقها كالفيروس لتغزو البلاد والمدن، وتعشش في العقول، وإذا اقتنع الإنسان بفكرة لا يمكن لأحد إجباره على التخلي عنها.
فلنبدأ بترويج الفكرة الخلاقة المستحيلة، فكرة توحيد العالم، ولنبدأ الغزوة الكبرى ..، غزوة العالم التي تهدف إلى تحريره من قوى الظلام، والقمع، والحرب، والفقر، والظلم والعنصرية ..، فلنبدأ وسوف نرى النتائج المدهشة.
العالم يتحرك، حركة لا تراها العين المجردة، ويتحد ببطء، صدقوني ستنمو البذرة جيلا بعد جيل، لتصبح ـ في المستقبل البعيد ـ شجرة باسقة.