أثارت قضية الغموض الجدل بين النقاد والمبدعين من ناحية، وبين المبدعين والقراء من ناحية أخرى، البعض يرى أن الفنون عموما ومن بينها الأدب يجب أن تكون واضحة لكي تصل إلى الناس، حيث يعد الفهم المدخل الأول للتواصل الإنساني، والمرتكز الرئيسي للإبداع، لولاه لانقطعت الصلة، وأصبح الإبداع كالضباب الدخاني.
بينما يرى البعض الآخر الغموض أداة فنية، بل مقوماً أساسياً من مقومات الفن، لأنه يفتح الباب للتفكير والتفاعل والتأويل، وهذه عملية مهمة بين المبدع والمتلقي، وأن القارئ يجب أن يرتقي لمستوى المبدع، وليس العكس، وأن النصوص السهلة كالوجبات السريعة التي تضر أكثر مما تفيد.
النقاد أنفسهم انقسموا فريقين، أحدهما يشدد على أهمية الوضوح، وينتقد ما يظهر في بعض الأعمال الأدبية ، من ألغاز و"لف ودوران" ورموز وطلاسم ؟!، ويتهمون بعض الكتاب بإهمال العنصر الأهم في العملية الإبداعية وهو المتلقي، مؤكدين أن الغموض يحول العمل الأدبي في بعض الأحيان إلى شكل من أشكال العبث، ويحول العمل من حوار بين المبدع والمتلقي إلى حديث داخلي بين المبدع ونفسه.
أما الفريق الآخر فيرى أن الغموض في الظواهر الفنية كالأدب والتشكيل والسينما والمسرح شيء طبيعي، وأن المهم في هذه العملية ليس الفهم، ولكن التأويل، مؤكدين أن للفن لغة ثانية، وهي لغة رمزية وإيحائية ، لغة العلامات والاشارات، فيها إنزياح عن الواقع، وبالتالي لا تحتاج إلى الفهم.
والغموض في الغرب مدرسة فنية وإبداعية، أفرزت العديد من الحركات والمدارس والتوجهات مثل السريالية التي تركز على فوق الواقعية، والمفاهيمية التي تركز على الفن النخبوي، وكان الغموض أحد مظاهر الحداثة التي ظهرت في العالم العربي في الأربعينات.
والغموض نوعان، الأول له مفاتيح ورموز تكشف ما وراءه، هو كالغلالة الرقيقة التي تضعها المرأة فتشي بالسحر والجمال، وهو الغموض الذي لا يصل إلى درجة الإيهام والضبابية واللاوعي، أما النوع الآخر فهو الغموض المغلق المستكره الذي لا يوصل إلى شيء، هو أشبه بالباب المغلق بمتاريس لا نعرف ما وراءه .
قد يأتي الغموض في العمل الأدبي كحركة النهر الطبيعية، ومنعطفاً يمكن ـ ببعض الجهد ـ اجتيازه لتصل إلى الحقيقة الساطعة، وقد يكون كالمتاهة التي يدخل فيها القارئ، فلا يصل أبدا.
البعض لا يقصد الغموض قصدا، فيأتي كالملح الذي يضيف المذاق إلى العمل الفني، ولكن البعض يقصد الغموض، ويعتقد أنه نوع من الثقافة، ودليل على المعرفة والكفاءة والفهم، فيقدم عملا فنيا سرياليا لا يفهمه إلا هو.
واللغة العربية تتميز بثراء الألفاظ، وهو ما جعلها تتميز بالقدرة على الإفهام الدقيق، والمتأمل لطبيعة اللغة نفسها يجد فيها العديد من أدوات التعبير التي تساعد المتحدث على صياغة التعبير الدقيق الجميل والمؤثر والواضح في الوقت نفسه، فهناك المحسنات البديعية مثل السجع والطباق والمبالغة وحسن التعليل، وهناك أيضا أدوات البلاغة مثل التشبيه والاستعارة.
وتقدم اللغة مساحات واسعة للإبداع، كالمجاز وهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح بقرينة، إضافة إلى التورية، وهي لفظ يحتمل معنيين.
وهناك مقومات فنية أخرى مثل الرمز، أو الإيحاء، أي التعبير عن الأفكار بطريقة غير مباشرة، وهي كلها أدوات إذا لم يحسن الكاتب استخدامها فإنه يقع في فخ الغموض.
الخلاصة أن الغموض بمترادفاته اللغوية ـ بشكل ما ـ جزء من مقومات اللغة نفسها، هو أداة فنية من أدوات التعبير، ولكن المهم هو أن نحسن استخدامها، وذلك بتقديم مفاتيح الفهم والرموز والدلالات التي تدل عليه.
وتبقى اللغة في النهاية مواد بناء تتضمن أدوات وتراكيب وجواهر ولآلئ، والأمر يتوقف على البنّاء الماهر الحاذق، والكاتب المبدع الذي يعي جيدا أدواته. القادر على تقديم النص الأدبي الذي يجذب المتلقي ويحفزه على التفكير والتفسير والتأويل وإعمال العقل. وله في سبيل ذلك أن يشرّق أو يغرّب، أن يكون واضحا أو غامضا، المهم أن يقدم للقاريء المفاتيح، والخريطة التي تساعده على الوصول إلى الكنز .