المقالة أحد فنون التعبير الأدبية، وهي مزيج من الإبداع والفكر، تكمن أهميتها في أنها تخاطب "الدماغ"، وفيما تستهدف فنون التعبير الأدبية المختلفة الوجدان أولا، تعمل المقالة على فكر القاريء وقناعاته، وهو ما يجعلها أسرع في التأثير، تماما كالحقنة الوريدية تدخل الدم مباشرة.
والمقالة فن قديم ولكن بالمقارنة بفنون أخرى كالشعر مثلا تعتبر حديثة، بدأ الشكل الأول لها على يد الكاتب الفرنسي ميشيل دي مونتين (1523-1592)، في كتابه "محاولات الصادر" عام 1585، والذي تضمن قطعا نثرية قصيرة تدور حول شؤون الحياة والمجتمع والناس.
لكن باحثين يرون أن أبو الفرج بن الجوزي (510هـ : 597 هـ) سبق في كتابة المقالة بعدة قرون في كتابه "صيد الخاطر"، كما ظهرت المقالة بشكل أولي في رسائل عبد الحميد الكاتب، وكتب ابـن المقفع، والجاحظ، وأبي حيان التوحيدي، وأبي العلاء المعرّي.
وعندما ظهرت المقالة الأوروبية الحديثة تأثر بها عدد من الكتاب العرب، أمثال محمد عبده ، وطه حسين، وعباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وأحمد أمين، ومصطفى لطفي المنفلوطي، ومصطفى صادق الرافعي، وزكي نجيب محمود.
نشأت المقالة على فكرة بسيطة وهي "الخاطرة"، فالكثير منا تراوده خواطر معينة، تشبه الومضة، ومن المهم أن تسجل، فربما تحل هذه الخاطرة مشكلة ما لفرد أو جماعة، والخاطرة تستدعي التفكير والتأمل، من هنا كانت المقالة فن التفكر والتدبر والخواطر الانسانية، وبمرور الزمن أصبحت تنحو نحو التفكير المنتظم.
والمقالة فن الجميع، وهي تشبه موضوع التعبير، الحد الأدنى المطلوب للتفاعل معها بسيط وهو معرفة القراءة، وقد أفادها الحجم القصير واللغة المكثفة، فكانت دائما سريعة الحركة واسعة الانتشار.
هناك مقالة مثل حلوى "غزل البنات" تذوب في فمك بمجرد القراءة، وأخرى كمنبع النهر لا تنتهي أبدا، تغير الأفكار، وتستنهض الهمم، وتلهم الأمم، وتفتح في الظلام كوة من النور.
أفضل المقالات تلك التي تتناول فكرة عامة، تجمع بين الإبداع الأدبي والفكري، تتميز بالبساطة والعمق، والكشف والتنوير، تبحث وتنقب وتقدم اكتشافها الخاص.
والمقالة دراسة قصيرة، تجمع بين فنون وأدوات مختلفة، ففيها البحث والتحقيق والسرد والشعر والنقد والتحليل والمقارنة، والكاتب الحقيقي يجمع بين حسّ المفكر، وإبداع الأديب، وأمانة الباحث، ومهنية الصحفي.
وفي العصر الحديث تطورت المقالة وتشعبت، فأصبح لدينا عدة أنواع منها، فهناك المقالة الصحفية، والمقالة الأدبية، والمقالة الفكرية، وتحت كل مجال ظهرت العديد من التصنيفات.
والمقالة الناجحة تعمد إلى الاختزال، والجمل القصيرة الهادئة التي تتناسب مع نَفَس القاريء، يظهر فيها حسن العبارة ودقة الاستشهاد والقدرة على الإقناع، وتتجلى في سطورها شخصية الكاتب، والتشويق الذي يدفعك إلى المواصلة حتى الكلمة الأخيرة.
المقالة فن أدبي لا يقل أهمية عن الشعر والقصة والرواية والمسرح والفن التشكيلي، ورغم دورها في إثراء الفكر والإبداع، لا تحظى بالاهتمام الكافي، بل أن البعض لا يصنفها كفن أدبي، ويؤرخ لها بنشأة الصحافة وتحديدا صحافة الرأي، ومع التسليم بأن الصحافة كان لها دور في انتشار المقالة ووصولها إلى الآفاق، فإنها في الأساس فن أدبي إبداعي مستقل له قواعده وأهدافه.
أتمنى أن تشهد المقالة الفترة المقبلة اهتماما على صعيد النشر والنقد، وأن نرى دراسات حديثة تعني بدراستها وتصنيفاتها، والمقومات الفكرية والابداعية فيها، وأن تنظم لها ندوات وورش ومؤتمرات نقدية.
والمهم أن تنتج الحركة الثقافية العربية دائما أجيالا من كتاب المقالة، لا أقصد المقالة الخبرية الخفيفة التي أفرزتها الصحافة والتي تتناول موضوعات وقتية مثل نتائج الثانوية العامة، والازدحام المروري، ولكن المقالة الأدبية التي تخاطب الدماغ، وتضيف المزيد على مستوى الإبداع الأدبي والفكر الانساني.