منذ مايقرب من ثلاثين عاما، وفي محاضرة في كلية الأداب بجامعة طنطا وقفت أمام أستاذي الذي كان يدرس لنا علم اللغة الدكتور محمد أبوالمكارم لأطالب بتبسيط النحو العربي، وذلك بغرض إيصاله إلى جمهور أوسع من الناس، وحتى لا يظل رهين قاعة المحاضرات .
وفكرة التلخيص قديمة جدا، فالكثير من القصص التاريخية خضعت للتلخيص على ألسنة الرواة والمنشدين، والحكاية الشعبية قائمة على فكرة التلخيص، بل أن أجزاء كبيرة من التاريخ خضعت لذلك، حتى أن فعل الكتابة نفسه يعتبر تلخيصا وتكثيفا للأفكار والتجارب، وفي الصفوف التمهيدية في المدارس يعتبر تلخيص الكتب أحد وسائل التعليم، ووسيلة للتأكد من استيعاب الطالب.
وفي التاريخ الأدبي ازدهرت فكرة تلخيص الكتب في القرن الخامس الهجري، وفيها يختصر الكاتب مؤلفا ـ خاصة الكتب العلمية والطبية ـ بغرض تبسيطه وشرحه وتسهيل فهمه.
ولعل ابن رشد (1126م: 1198م) من أوائل من اهتموا بالتلخيص في القرن الخامس الهجري، حيث قام بتلخيص الطبيعيات، ومن أشهر كتبه "تلخيص كتاب القياس" لأرسطو، والتلخيص وفقا للدكتور حسن حنفي في كتابه "من النقل إلى الإبداع "تخليص النص من شوائبه اللغوية، وتحريره من الألفاظ لاكتساب المعاني، ولا يخلو التلخيص من النقد وتبديد الشكوك والتحول من الظن إلى اليقين"، والغاية منه "توضيح النص أمام الذات، واستيعابه إلى الداخل، وليس استعراضه إلى الخارج، وتحويله إلى بؤرة عقلية وموضوع ذهني"، لذلك يحتاج التلخيص إلى "فكر باحث ومحقق وليس مجرد فكر ملخص وعارض".
ومن الكتّاب الذين نحوا هذا المنحى موسى بن ميمون ( 1138م : 1204 م) الذي وضع كتبا لقبت بـ "المختصرات" وهي تلخيص الكتب الستة عشرة لجالينوس اليوناني، وقد اختصر بن ميمون في كتاب "الأمثال الطبية" كتاب جالينوس إلى 1500 عبارة قصيرة تشمل كل فرع من فروع الطب.
وعلم التحقيق يعتبر في بعض جوانبه تلخيصا للكتب، وهناك العديد من الكتب المحققة التي أوضحت حتى في العنوان أن الهدف الأساسي التلخيص، ومنها، "تلخيص ما بعد الطبيعة" حققه وقدم له عثمان أمين 1958 م، "تلخيص السفسطة" تحقيق محمد سليم سالم 1972م، "تلخيص كتاب المقولات" تحقيق مويس بويج 1983م.
التلخيص لم يكن منهجا فقط، ولكن كان هدفا وأسلوب كتابة، ومن أمثلة ذلك "التلخيص لوجوه التخليص" لابن حزم الأندلسي (994 : 1064م)، و"تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد" لجمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري (1309 : 1360م)، و"تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، والذي ألفه رفاعة رافع الطهطاي.
وفي الوقت المعاصر، للروائي أشرف الخمايسي إصدارات في هذا المجال، حيث أصدر سلسلة "سيرة عرب أقدمين"، المكوّنة من سبعة أجزاء، كل جزء منها عبارة عن تلخيص وتهذيب لأحد أمهات الكتب العربية القديمة، مثل "الأغاني" لأبي فرج الأصفهاني، و"حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" للسيوطي، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه.
ومؤخرا، انتشرت فكرة تلخيص الكتب، وأصبح لها بريق، وظهرت دور نشر ومواقع ألكترونية تختص بتلخيص الكتب، خاصة تلك المتعلقة بريادة الأعمال وتطوير الذات، وظهرت مهنة جديدة هي "ملخِّص الكتب" وساعد على ذلك تطور المجتمعات وزيادة مشاغل الحياة، وبروز قيمة الزمن الذي يساوي في الحقيقة المال، والرغبة في الحصول على مجموعة كبيرة من الخبرات في أقل وقت.
ومع تأييدنا للفكرة في الأساس، لدورها في تبسيط وتسهيل وصول الثقافة لعموم الناس، إلا أن الأمر أصبح في بعض الأحيان نشاطا تجاريا تمارسه بعض الشركات والجهات بدون ضوابط.
أتمنى إحياء فكرة تلخيص الكتب، ليس بالمنطق التجاري الذي نراه أحيانا، ولكن بالمنهج العلمي القديم الذي يعتمد على النقد والتحليل والتحقيق والتكثيف واستخلاص الأفكار، وهذه أمور تحتاج إلى شخص لديه مقومات معينة.
"تلخيص" الكتب" يمكن أن يكون موضوعا لمؤتمر يطرح القضية، ويناقش ضوابط التلخيص ومراحله، ومقومات المُلَخِّص، بذلك يصبح التلخيص فنا وعلما مثله مثل البحث والتحقيق والترجمة، ولا شك أن الفوائد عظيمة.