كشف ربيع الثورات العربية الكثير من الأسرار، وأسقط العديد من الأقنعة، هبط المطر بغزارة، فأزال مساحيق التجميل، وظهرت الندوب، والملامح الحقيقية القبيحة. فضحت غضبة الشعوب طبيعة الحفل التنكري الذي يقام كل ليلة في أروقة السياسة على جراح الشعوب، وفضحت اللص الذي يرتدي زي المقاتل، والثعلب الذي يرتدي زي القرد حكيم الغابة، والثعبان الذي يرتدي زي مبعوث السلام، وكشفت الطابور الخامس من العملاء الذين يتشدقون بالديموقراطية، ولكنهم يعملون في السر ضد النور والحرية.
كشفت الثورات العربية أن الفارس الهمام الذي طالما تشدق بمقاومة إسرائيل، هو وإسرائيل سواء، وأنه جلس أخيرا معها في مقهى واحد وخندق واحد، وهو خندق المعادين للحرية. لقد ظل مقاول الفروسية طوال عمره ينادي بتحرير فلسطين، وعندما طالبت الشعوب العربية بنفس الحرية تململ وتلعثم، وعندما مر الوقت الطويل وزاد الحصار عليه، اضطر إلى الكلام ، ليشيد بالطاغية بشار الأسد، ويخرج للشعب السوري لسانه.
وهكذا لعبة السياسة، تجمع الأعداء والأضداد، وكما قال قيس بن الملوح "وقد يجمع الله الشتيتين بعدما .. يظُنانِ كلّ الظنِ أن لا تلاقيا".
الفارس الهمام يرفض ديكتاتورية العدو، ويرحب بديكتاتورية الصديق، يرفض ظلم العدو، ويرحب بظلم الصديق، وهو لا يعلم أن الحزن واحد والظلم واحد والديكتاتورية واحدة. المقتول بسكين العدو لديه شهيد، والمقتول بسكين الحليف مجرم من العصابات المسلحة.
الفارس الهمام راعي سلاح المقاومة الذي لم يحرر أرضا، أو نخلة، أو زيتونة، والذي لفت الأضواء بخطابه المعادي لإسرائيل، فقام الشباب العربي والمصري اليائس الباحث عن أي رمز بتعليق صورته في المنازل والمحال التجارية، ها هو يخذل الجميع، ويحرجهم، ويطأطئ رؤوسهم، بانحيازه للطاغية، وتأييده له.
الفارس الذي صدع رؤوسنا سنوات طويلة بمعاني المقاومة والعزة والكرامة ها هو يقهر العزة ويعتقل الكرامة، ويندد بالشعوب المقاومة التي خرجت لتطالب بحريتها، ويؤكد بذلك أنه كان دائما فارسا من ورق.
المبادئ لا تتجزأ والقيم لا تنفصم، هكذا تعلمنا في الكتب، ولكن الواقع يؤكد أن المبادئ يمكن أن تتجزأ إلى قطعة أو قطعتين، أو حتى 100 قطعة، المبادئ يمكن أن تطبق بصرامة على شخص وتستثني آخر، والقيم العظيمة تعتمد في مكان، وتعطل كأحكام الدستور في مكان آخر.
المبادئ لا تنفصم، هكذا علمنا الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قال "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، ولكن في هذا العصر الكثيرون يسرقون ولا تقطع أياديهم، الكثير يخرجون على المبادئ كل يوم ، ليس ذلك فقط، ولكن المبادئ نفسها أصبحت أداة خبيثة للظلمن وتوثيق وتشريع سرقة الحقوق والأوطان.
السياسة مهنة سيئة السمعة، لأنها لا تعتمد على المبادئ، ولكنها تعتمد على المصالح، والأحلاف، والتوازنات الإقليمية، وقواعد الهيمنة، لذلك فإن السياسي هو الكذاب الأول على الأرض.
كانت قضية فلسطين أكبر قضية فساد في التاريخ، كالطفل البريء الذي تستغله أمه وأقاربه وجيرانه في الشحاذة والاستيلاء على أموال الناس، كانت القضية باب رزق كبير للصوص، والنصابين، ومدعي البطولة، وتجار الحروب، والمتاجرين بجراح الشعوب.
هناك مثل شعبي يقول "أطعم الفم تستحي العين" لذلك لا نتصور أن يعارض المناضل المزعوم النظام السياسي الذي يدعمه ويزوده بالمال والسلاح، ولا نتصور أن يقوم "المفتي الملَّاكي" الذي ناصر الشعوب في ثوراتها بتأييد حتى مظاهرة ضد النظام الذي يؤويه ويمنحه جنسيته، ويمده بالمنح والعطايا.
أيقظت الثورات العربية الذاكرة، وظهر كل شخص على حقيقته، ولم يعد بوسع أحد التجمل والمزايدة على القضية، أو ادعاء النضال، أو المتاجرة بدماء الشهداء. لم يعد لأي شخص أن يدعي البطولة ويجيش الشعوب، ويستغل المشاعر لأغراض شخصية. لقد كشفت الثورات العربية المناضل الحقيقي وهو الشعب، وأسقطت كل اللصوص والنصابين.
لقد كان زين العابدين بن علي هو القطعة الأولى الذي سقطت في سلسلة قطع النرد الكثيرة المتوالية في لعبة السياسة، وكانت القطعة الثانية مبارك، والثالثة القذافي، والرابعة علي عبدالله صالح، وهكذا تستمر دراما السقوط، لتسقط تباعا الكثير من القطع.
أيها الفارس الورقي المتشح بعباءة الخوف، وعمامة الضلال، .. لا مفر من السقوط. ستسقط كما سقط غيرك، ولن تنجو من النهاية المؤلمة، حتى لو ادعيت انتماءك إلى لعبة الشطرنج..
أما نحن فكل ما علينا فعله هو الاستلقاء أمام الشاشة، ومتابعة قطع الدومينو التي تسقط قطعة.. قطعة، ونردد قوله تعالى: "تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء".