تسجيل الدخول
برنامج ذكاء اصطناعي من غوغل يكشف السرطان       تقنية الليزر تثبت أن الديناصورات كانت تطير       يوتيوب تي في.. خدمة جديدة للبث التلفزيوني المباشر       الخارجية الأمريكية تنشر ثم تحذف تهنئة بفوز مخرج إيراني بالأوسكار       الصين تدرس تقديم حوافز مالية عن إنجاب الطفل الثاني       حفل الأوسكار يجذب أقل نسبة مشاهدة أمريكية منذ 2008       تعطل في خدمة أمازون للحوسبة السحابية يؤثر على خدمات الإنترنت       حاكم دبي يقدم وظيفة شاغرة براتب مليون درهم       ترامب يتعهد أمام الكونغرس بالعمل مع الحلفاء للقضاء على داعش       بعد 17 عاما نوكيا تعيد إطلاق هاتفها 3310       لافروف: الوضع الإنساني بالموصل أسوأ مما كان بحلب       فيتو لروسيا والصين يوقف قرارا لفرض عقوبات على الحكومة السورية       بيل غيتس يحذر العالم ويدعوه للاستعداد بوجه الإرهاب البيولوجي       ابنا رئيس أمريكا يزوران دبي لافتتاح ملعب ترامب للغولف       رونالدو وأنجلينا جولي ونانسي عجرم في فيلم يروي قصة عائلة سورية نازحة      



نصوص الأهرام أقدم ديوان شعري ميتافيزيقي في التاريخ




حوار مع الشاعر والآثاري الدكتور أحمد علي منصور حول تجليات الإبداع الشعري والسردي في مصر القديمة

 

 




القاهرة: الأمير كمال فرج.


شيد المصريون القدماء حضارة عظيمة منذ أكثر من ستة آلاف عام، لم نعاصرها بالطبع، ولكن وثقتها بالتفصيل الآثار الفرعونية التي لا تزال اكتشافاتها تتوالى في العديد من بقاع المحروسة، وتحتفظ رغم الحقب الزمنية الطويلة بالعديد من الأسرار.

برع المصريون القدماء في البناء والعمران والفنون والصناعة والري والطب والهندسة، تؤكد ذلك الكتابات والرسوم الموجودة على الأهرامات والمعابد والآثار والمسلات، والتي كشف لغتها الهيروغليفية شامبليون عندما فك لأول مرة رموز حجر رشيد. كما سبقوا العالم في علوم  قد يظن البعض أنها حديثة؛ مثل الإدارة والحكم وتمكين النساء والمساواة وحقوق الإنسان . واعتنوا بالجسد فبرعوا في تجميله وتزيينه، والحفاظ عليه ـ حتى بعد الموت ـ بالتحنيط، كما اهتموا بالتربية الروحية فكتبوا الوصايا والتعاليم الأخلاقية، وآمنوا بفكرة الحياة الأخرى، فأرفقوا مومياواتهم بالتوابيت والحلى والذهب الذاخرة بالفنون والجمال في رحلتها المثيرة إلى عالم الخلود.

ومع تشعب الموضوعات المتعلقة بالمصريين القدماء، والتي ظلت مادة خصبة للدارسين والباحثين في مصر والعالم، وهو ما سمى بعلم المصريات ، فإن الكثير من الأسئلة تبقى مجهولة الجواب، محفوفة بالغموض والأسرار. ومنها .. كيف كانت علاقة الفراعنة بالأدب، وهل كتبوا الشعر أو الرواية والقصص كما نكتبها ونعرفها اليوم، أو حتى بأشكالٍ قريبة منها ؟.

ظلت هذه الأسئلة تراودني طويلاً، حتى قررت الحصول على إجابات لها، وحتى أعثر على ما أريد كان علي أن أعثر على شاعر وخبير في الآثار في الوقت نفسه، وكانت النتيجة هذا الحوار مع الشاعر والناقد وخبير الآثار المتخصص في مجال اللغة المصرية القديمة وآدابها، مدير عام متحف كفر الشيخ، الدكتور أحمد علي منصور، الذي أجاب عن كل الأسئلة، وكشف العديد من الأسرار.

أكد منصور ـ في حواره مع "الصحافة" ـ أن الفراعنة كتبوا الشعر، بل أنهم تركوا "نصوص الأهرام"، أقدم ديوان شعري ميتافيزيقي كوني في التاريخ، وتوفرت في القصائد الفرعونية نفس سمات الشعر العربي، وبخاصة الأوزان، والقوافي، مؤكدًا أن الفراعنة أول من كتبوا القصيدة. وفي هذا الحوار نتعرف منه على العديد من الأسرار والآراء المدهشة.

 نصوص الأهرام

ـ السؤال الذي أبحث عن إجابة له هو .. هل كتب الفراعنة الشعر؟


من حيث المبدأ.. الشعر فطرةٌ فطر الله الخلقَ عليها، والكون مادة الشعر، فمفردات الشعر من تصوير وتشبيه ومجاز وغيرها هي مفردات ومعاني الطبيعة؛ فالشعر هو العالم الموازي للطبيعة الكونية وتفاعلاتها. وبطبيعة الحال الإنسان تفاعل بفطرته مع شعرية العالم، فكانت الإرهاصات الشعرية استجابة للحضارة الكونية، وترجمة لمظاهر الطبيعة والوجود.

والمصريون القدماء بصفة خاصة انشغلوا برصد التحولات الكونية في العالم والوجود، ولذلك صاغوا أقدم النصوص السردية والشعرية في أساطيرهم الأولى المفعمة بالرمز والمجاز والصور الشعرية الخلابة والخلاقة. وهو ما نجده بصفة خاصة فيما يعرف بـ "نصوص الأهرام"، وهي أقدم ديوان شعري ميتافيزيقي كوني في التاريخ، مكتوب بالخط الهيروغليفي في داخل غرف أهرامات الدولة القديمة في منطقة سقارة بمحافظة الجيزة المصرية، وهو ما يعرفه الكثيرون، ومع ذلك يجهله أو يتجاهله المؤرخون، فلا يعطون هذه الإبداعات حقها وقدرها الصحيح كأقدم نصوص شعرية بالمعنى التأسيسي الحقيقي لهذا الفن الرفيع.

ـ وهل توفرت للنصوص الشعرية الفرعونية مقومات الشعر كالموجودة في الشعر العربي، كالقوافي والأوزان مثلا ؟

النصوص الشعرية المصرية القديمة توافرت فيها أساسات الشعر بكل أسلوبياته وفنونه القديمة والحديثة، وبخاصة الأوزان، والقوافي، والبنى الإيقاعية، وفنون التشبيه والمجاز من الاستعارة والكناية والتمثيل. والبيت الشعري مصطلح هيروغليفي، فقد كان المصريون القدماء يسمون السطر الشعري (بيت)، ولا شك أنَّ هذا الاصطلاح الشعري مأخوذ عنهم.

وقد كان لمبدعي مصر القدماء الباع الأكبر في فنون النظم والبيان والبديع، التي أتقنوها ووظفوها التوظيف الفني والجمالي والدلالي المناسب حسب كل مقام. وقبل كل شيء وبعده فقد انشغلوا بالفكرة، والمعنى، والقضية، فوازنوا بين الفن الملتزم الهادف ذي الرسالة الإنسانية في المقام الأول، وبين توظيف الفن للفن، فبلغوا الذروة في هذا المسلك الإبداعي وذاك.

وباختراعهم للكتابة الهيروغليفية، الصوتية والتصويرية، فقد واجه المصريون القدماء إشكاليات كثيرة تتعلق بقضايا اللغة والكتابة والتعبير بكافة وسائله الكلامية والفنية، فاستطاعوا التعامل مع هذه القضايا بعمق، لتكون لغتهم وكتاباتهم قادرة على الوفاء بمتطلبات التعبير الفني الأدبي والدلالي بشكل عام.

بحر الخبب

ـ هل كان لديهم أوزان شعرية خاصة تختلف عن بحور الشعر التي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي ولد عام 718م ؟


هناك محاولات كثيرة لعلماء أجانب للتعرف على عروض الشعر المصري القديم، كما أن هناك رسالة ماجستير للباحث المصري هاني رشوان حول موسيقى الشعر المصري القديم. وقد قلت له في بداية تسجيله للموضوع أنه لن يصل لشيء يتعلق بالأوزان العروضية، لأن غياب تمثيل أحرف الحركة في الكتابة الهيروغليفية سيؤدي بالضرورة لعدم إمكانية القراءة الكاملة لمسار الصوت الشعري بين الحركات والسكنات. ولكنني قلت له أن البديل هو التعرف على سمات الإيقاع الشعري من خلال أبنية الجمل، ومن خلال التوازنات والتوازيات التركيبية والإيقاعية.

وأنجز الباحث موضوعه بشكل جيد، حيث استطاع سرد اجتهادات علماء الغرب في هذا المجال، وبخاصة محاولة التعرف على أسلوبيات الإيقاع في القصيدة المصرية الهيروغليفية.

على أنه لا شك كان عند المصريين أوزان عروضية خاصة، تختلف بالطبع عن أوزان الخليل بن أحمد، فالأخيرة أوزان تخص الشعر العربي وحده، وقد يتكرر القليل منها، أو بعض أجزائها التفعيلية في بعض البنيات غير العربية، لكن يظل العروض الخليلي عربيًا لأنه مرتبط بالبناء الصوتي العربي الخاص.

وأعتقد أن بحر "الخبب" العربي، وإن لم يكن من بين أوزان الخليل، هو البحر العربي القابل للإيقاعات الشعرية المختلفة في العربية وغير العربية، فإيقاع "الخبب"، وخاصة النماذج الحداثية منه، قابل لتشكيلات واسعة متنوعة.

وربما عرف المصريون بحر "الخبب" الراقص في أناشيدهم، لأن بنيته الصوتية النمطية الشائعة عبارة عن تتابع تبادلي منتظم بين الحركات والسكنات، مع إمكان الانحراف والتنوع، وهو ما يجعل فكرة العروض بشكل عام، عربيًا أو غير عربي، مناسبة للوزن على أجزاء "الخبب" بأسلوب نمطي سهل، يقبل التنوع والثراء. وبالمناسبة أُفاجئك بأنَّ لفظ ومعنى "خبب" هو مصري قديم مائة بالمائة، وله نفس المدلول اللغوي العربي تمامًا، وبخاصة الحركة الخاصة المتميزة بالسرعة والرشاقة مشيًا أو جريًا أو عدوًا.

الموسيقى الشعرية

وهل توجد شواهد كافية نستدل منها على خصائص الإيقاع في الشعر المصري القديم ؟

كل نصوص الشعر المصري القديم، أو النصوص النثرية المكتوبة بلغة شعرية، لا تخلو من تنوع أسلوبيات الإيقاع والموسيقى، وبصفة خاصة الإيقاعات المتحققة في التراكيب المتوازية والمتوازنة، والأهم منها تلك التراكيب التقابلية التي تعتمد على التماثل والاختلاف. وذلك فضلاً عن أسلوبيات التماثل الصوتي، وبخاصة فنون الجناس والسجع والترديد، بالإضافة للقوافي في نهايات الأسطر والأبيات أو المقاطع الشعرية.

وتزداد العناية بالإيقاع الموسيقي الشعري بصفة خاصة في النصوص والترانيم الدينية التي كانت تتلى في الطقوس والشعائر والمناسبات. ولدينا شواهد لا تحصى من مثل هذه الأغاني والأناشيد والترانيم، والتي اعتمدت على أشكال متنوعة من الإيقاعات الشعرية والموسيقية.

وبالمناسبة فإنَّ فنون الإيقاع هي من أعظم فتوحات المصريين في تاريخ الحضارة البشرية، وتحتاج وحدها عشرات الدراسات للكشف عنها من خلال ما لا يحصى من الشواهد الأثرية.

ما هي الموضوعات التي تناولها الفراعنة في أشعارهم ؟

على مستوى الكتابات الشعرية هناك شكلان من الكتابة الشعرية؛ الأول وهو الشعر بمعناه المعروف، وبفنياته وأغراضه ومقاصده، والثاني هو الكتابات التي ليست بقصائد شعرية، لكنها مكتوبة بأساليب شعرية.

فكما نجد اليوم في الأدب الحديث، أصبح للقصيدة الشعرية أشكال متعددة بين النظم القديم (الشكل القافوي)، والنظم الجديد (الشكل التفعيلي، والشكل النثري). وكذلك أيضًا دخلت اللغة الشعرية في السرد، كما دخل السرد في الشعر، ومع هذا بقي السرد سردًا، والشعر شعرًا.

كذلك في مصر القديمة، كانت هناك قصائد شعرية تعتبر شعرًا خالصًا من حيث البناء والموضوع والأسلوب والغاية، وبصفة خاصة الأناشيد والترانيم الغنائية لبعض الأرباب أو مظاهر الحياة أو الطبيعة، وأكثرها أناشيد للنيل، وأناشيد لبعض الأرباب، مثل آمون رب طيبة، ورع رب هليوبوليس.

وهناك نصوص شعرية دينية كانت تُتلى في الشعائر والمناسبات الدينية والأعياد، أو تُكتب على جدران المعابد والمقابر، لتعبر عن العقائد والأفكار والفلسفات المتصورة عن الإنسان والعالم والحياة والوجود، وأشهرها على الإطلاق "متون الأهرام"، أقدم النصوص الشعرية في التاريخ، وأنشودة "آتون" التي كان يرتلها الفيلسوف العابد "إخناتون" للرب الواحد الكامن من وراء القوة الشمسية "آتون"، وهو من أروع التجليات الأدبية الروحية في العالم القديم.

وهناك أيضًا موضوعات أخرى، كالغزل، والقصائد الوطنية والحماسية، ومدائح الملوك لتمجيد أعمالهم ومنجزاتهم السياسية والعسكرية والتنموية للنهوض بالبلاد. كما لا ننسى الفن الذي تميز به المصريون القدماء، وهو أدب الوصايا والتعاليم الأخلاقية، والتي كانت تُكتب بلغة شعرية لتقريبها من الذوق العام.

مشاركة المرأة

هل كتابة الشعر كان مقتصرة على الشعراء.. ألم يكن للمرأة إسهامات في ذلك؟


لا أستطيع أن أدعي وجود نص شعري مصري قديم منسوب لامرأة، وإن كانت بعض النصوص الغزلية صيغت في حواريات بين الشاب والفتاة، لكن هذا لا يعني أن الفتاة هي التي قالت ذلك، فبالتأكيد هي من وضع مؤلف القصيدة.
 وفي العموم كان الشعراء المصريون قليلاً ما يُثبتون أسماءهم على القصائد، ولذلك لا نعرف من كتاب مصر القديمة إلا عددًا قليلاً، كلهم من الذكور، وبصفة خاصة كتاب نصوص "التعاليم والوصايا" التي كانت تنسب للآباء يوصون أولادهم، كما نسبت إلى حكماء معروفين قاموا بهذا الدور لتربية الأجيال، فتواصلت شهرتهم عبر العصور بتوارث هذه الوصايا التي تحض على مكارم الأخلاق والعمل الصالح.

ولكن يوجد كثير من النصوص غير الأدبية تُنسب لنساء من مصر القديمة، منها مثلاً الخطابات التي كنَّ يكتبنها لموتاهن لأسبابٍ تتعلق بالمعتقدات الشعبية التي تدفع النسوة لمخاطبة الموتى وكأنهم أحياء يمكن أن يستمعوا لشكاواهن. لكن هذه النصوص وإن كتب بعضها بلغة متقنة، إلا أنها لا تعد نصوصًا أدبية بالمعنى الإبداعي.

على أن هذا كله لا ينفي احتمال وجود شواعر مصريات، أو كاتباتٍ مبدعات في أي عصر من العصور؛ ذلك لأن الآثار المصرية في جميع العصور تثبت وجودًا فاعلاً وحضورًا مكثفًا واثقًا للمرأة المصرية القديمة على شتى المستويات، حيث تثبت الشواهد الآثارية أن المرأة قسيمة الرجل تمامًا بتمام، وأنه لم يكن ثمَّة تمييز ذكورِيٍّ يمنع ممارسة المرأة للكتابة أو الإبداع الفني. غير أن الآثار عزيزةٌ حتى اليوم في الكشف عن مبدعات مصر القديمة.
ولكن لا أنسى أن أثبت من واقع ما لا يحصى من الشواهد مشاركة المرأة بشكل واسع في فرق الإنشاد والموسيقى، بل كان هذا المجال يكاد يكون مقصورًا على النساء، باستثناء المنشد الرئيس في الفرقة. وربما كانت المنشدات هن من يقمن بتأليف بعض المقطوعات الغنائية التي ينشدنها، إلى جانب ما يؤدينه من الأغنيات المحببة من إبداع الآخرين.

لماذا لا يتصدى باحث لجمع شعر وأدب الفراعنة على مر التاريخ وترجمته من الهيروغليفية إلى العربية ؟

 هناك محاولات واجتهادات كثيرة في هذا الميدان، لكنها للأسف لم تكن ترجمات مباشرة من النصوص الهيروغليفية أو الهيراطيقية (الخط الهيروغليفي المختصر)، إنما كانت تلك الترجمات نقولاً عن ترجماتٍ غربية بلغات مختلفة، وبخاصة الإنجليزية والفرنسية والألمانية.

فعلماء الغرب تصدوا لنقل وترجمة ما لا يحصى من النصوص المصرية القديمة، ونحن نأخذ عنهم من لغاتهم إلى العربية، ومن ثمَّ فهي ترجمات خاضعة لرؤية أصحابها، ويصيبها التشوه الحتمي للأساليب والمعاني نتيجة الابتعاد عن لغة النص الأصلي.

على أنَّ الترجمات العربية الكثيرة المتاحة في المكتبات تتيح للقارئ العربي التعرف على العشرات وربما المئات من نماذج ونصوص الأدب المصري القديم، وبصفة خاصة موسوعة "مصر القديمة" للعلامة الدكتور "سليم حسن"، ومن بينها جزء خاص عن الأدب المصري القديم بأشكاله وفنونه، ترجمه عن كتاب العلامة الألماني الكبير أدولف إرمان.

رواية فرعونية

ماذا عن الفنون الأدبية الأخرى كالقصة والرواية.. هل كتب الفراعنة هذه الفنون أو أشكالاً قريبة منها ؟

كما كتب الفراعنة الشعر، والأسطورة، كتبوا أشكالاً متعددة من الفنون الأدبية، مثل القصة، والرِّواية أو القصة الطويلة. وقد برع المصريون بعد الشعر في السرد القصصي، ووضعوا أساسًا لبنية القصة الطويلة، تعتمد على آليات الحكاية القصصية، مع تطعيمها ببعض الأسلوبيات الشعرية، حتى كادت بعض النصوص القصصية أن تكون شعرًا قصصيًا، أو سردًا شعريًا (narrative verse)، ولذلك تحير بعض العلماء في نسبتها للشعر أم للقصص، ومنها قصة "سنوهي"، والفلاح الفصيح، والملاح الناجي، وغيرها.

وقد كانت بنية السرد القصصي بنية مكتملة تعتمد على الحكي، والحبكة، والأشخاص، والزمان، والمكان، والخط السردي، والحوار الذاتي أو الثنائي أو المتعدد. كما عُرف القصص التاريخي حكاية لبعض الحوادث التاريخية، ووجد هذا اللون أيضًا مكانًا له في الكتابات الشعرية، حيث ظهر العديد من النصوص التي رصدت بعض الحوادث التاريخية وتداعياتها، على نحو ما نجد مثلاً في نصوص عصر الانتقال الأول في أعقاب الثورة الاجتماعية الأولى في التاريخ. ومن ثم لم يكن السرد القصصي أو الشعري موضوعًا للتسلية أو الترفيه الاجتماعي أو الرفاهية الثقافية، وإنما كان هادفًا ملتزمًا مصوبًا لمقاصد عليا للارتقاء بالذائقة، وبالسلوك، ومنطلقًا من قضايا ومتطلبات الواقع، ومتنفسًّا للذات وللضمير للتعبير عن خلجات النفس وشواغلها وتطلعاتها.

ولذلك فقد عرف المصريون أيضًا فن الأسطورة، وبرعوا فيه على المستويين الفني الصياغي والفكري الفلسفي، حيث كان في الأسطورة متسعٌ لاستيعاب الرؤى والأفكار والتأملات والتصورات بل وحتى الخيالات والأوهام التي تشغل الإنسان في مواجهة أحواله ومصائره في العالم والوجود، وخاصة ما يتعلق بقضايا الحياة والموت، والوجود والعدم، والفناء والخلود، والقضاء والقدر، بالإضافة لقضايا الإنسان والحياة، كالحرب والسلام، والتعايش والتنافر، والصراع والتوافق، صاغوها في موضوعات أسطورية تفتح مجالاً للحوار الفكري الخلاق سعيًا لمعالجة هذه القضايا في الواقع.

نقد فرعوني

وماذا عن النقد، هل كان لدى الفراعنة آلية لتقويم الإبداعات الشعرية وتحسينها وتصويبها، وهل كانت هناك مراتب أو طبقات للشعراء كما فعل ابن سلام الجمحي الذي وضع "طبقات فحول الشعراء"؟


يقول أحد حكماء مصر القديمة في مقدمته لنص شعري: "ليت لي أقوالاً غير معروفة، وكلامًا مدهشًا من ألفاظٍ طازجةٍ ليست دارجة، خاليةٍ من الابتذال، فلا يكون كلامـًا لمجرد الفضفضة (الثرثرة)". ومعنى هذا أنَّ الكاتب المصري القديم كان يبحث عن الطزاجة والتجدد وعدم التكرار بالابتذال والتقليد والنقل، كما كان يبحث عن الفكرة الجديدة والجادة المبتكرة، لئلا يكون كلامه مجرد فضفضة أو ثرثرة لا تفضي إلى معنى يستحق الكتابة.

ومثل هذه الكلمات تعكس لنا شكلاً من أفكار المصريين النقدية على طريقة الجاحظ حين تصدى للكلام عن المعنى واللفظ فأوجز الكثير مما يتسع من تفاصيل النظرة النقدية في عصره.

وليس لدينا برديات أو نصوص مصرية نقدية أو تعليمية تتضمن نظرياتهم ومذاهبهم الفنية، فقد جعلوا المنجز التطبيقي دليلاً على نظرية الفن، دون التدوين النظري لها على عادة المحدثين الآن. لكن تجويد الفنون الأدبية على مستوى الأشكال والمضامين والأسلوبيات الإبداعية والتعبيرية عبر العصور لابد وأنه يعكس جدليات وحواريات ذات طابع نظري نقدي منهجي، يسمح بتطور الأشكال والموضوعات، وتحرر المضامين، وهي أمور لا تحدث تلقائية إلا في أجواء التلقي التفاعلي بين الذوق والنقد.

وبالطبع كان هناك طبقات للشعراء، ولكن ليس على طريقة ابن سلام الجمحي، حيث نعرف من الآثار ذيوع أسماء العديد منهم بسبب إبداعهم الذي جعل لهم مكانة وشهرة في البلاد لقرون عديدة بعد رحيلهم.

وأقتطف لك في هذا السياق مقطعًا من بردية لأحد كتاب الرعامسة، يقول: "ألا إنه لمن الخير أن يكون اسـم المرء في أفواه الناس في الجبانة، فإنَّ الرجلُ يموت، وتصبح جثته جيفةً عفنة، وبالمثل تصير كل ذريته رمادًا، إلا أنَّ كتاباته تجعل له ذكرًا على لسان من يقرأها. ألا إنَّ كتابًا واحدًا لهو أنفع من بيتٍ مؤسَّسٍ، ومن قبرٍ في الغرب، وإنه لأجمل من قصرٍ مشيد، ومن نصب تذكاري في المعبد. فهل يوجد رجل مثل "حور ددف"، وهل ثمَّةَ آخر مثل "إيم حوتب". كما أنه ليس في زمننا أحد مثل "نفري"، أو "خيتي"، وهو الأول بينهم؛ وأذكر لك اسمين، هما: "بتاح إم جحوتي"، و"خع خبر رع سونب"؛ وهل هناك من يماثل "بتاح حوتب"، و"كارس"، فإنهم الحكماء الذين تنبئوا بما سيكون، ولقد حدث فعلاً ما باءوا به. وقد وجِدَت أحاديث مُدونةٌ في كتبهم، جعلت أولاد غيرهم بمثابة ورثتهم، كأنما هم أولادهم حقًا؛ فلقد غابوا، لكن إبداعهم قد امتد أثره إلى كل الناس الذين قرءُوا وصاياهم).

 الشعر الجاهلي

ـ ولكن ما رأيك فيما أوردته كتب النقد من أن أقدم نص عربي كتبه شاعر على وقع حداء الجمل في العصر الجاهلي؟


العرب لا يعرفون من تاريخهم الشعري الذي يخصهم إلا أقدم ما أثبتوه من رواياتهم الشعرية. والمؤكد والمنطقي أن الشعر العربي أقدم من هذا بكثير، لكنه غير مدون من تراث العربية الفصحى قبل استقرار الخط العربي، والكثير من الرِّوايات الشفاهية القديمة ضاعت في البيداء ولا نعلم عنها شيئا.

ولذلك أرى أنَّ هذا ليس أول شعر العرب،  ولا تلك هي أول مروياتهم الحقيقية. وبالمناسبة، فإنَّ نفس الشيء نجده في مجال تأريخ الفنون بشكل عام، وخاصة مغالطات مؤرخي الغرب إما جهلا أو عمدًا بنسبة فنون الفلسفة والشعر والدراما والنقد وغيرها إلى الإغريق من الآباء اليونانيين، متجاهلين أو متناسين ما أقر به علماء المصريات من رصد آلاف النماذج الشعرية والسردية المصرية القديمة الراسخة في هذه الفنون.

غير أن هؤلاء لم يطلعوا في هذا الجانب التأريخي بالشكل الكافي الذي يكشف عن معطيات المصريين الحقيقة في تأسيس أركان وأسس ومبادئ الفكر والفنون، ومنها الشعر، مكتفين فحسب بعرض بعض التفسيرات الأسطورية المميزة والغامضة التي تحجب الحقائق أو تغشِّي عليها.

ولعل الرصد المتمهل الدقيق والأمين للمنجز الحضاري المصري القديم في مجالات الفنون والآداب سيؤكد بالشواهد الدالة قيام الحضارة المصرية بكامل مفرداتها وعناصرها ومظاهرها على منهج شعري بالكامل، مستمد من الطبيعة والكون والوجود.

من أول من كتب الشعر ؟

ـ  باعتماد هذه النظرية، الفراعنة ليسوا أول من كتب الشعر، ومن المفترض أن الإنسان في عصور سابقة كتب أيضًا القصيدة ؟


هذا سؤالٌ ذكي ماكر ومباغت، أخذ من بعض كلامي ما ربما ينقض بعضَه، بما أنَّ الشعر هو فطرة الله التي فطر الخلق عليه. لكنني سأجيبك إجابة ماكرة على قدر صياغة السؤال، فأنت تقول أن المصريين القدماء ليسوا أول من كتب الشعر، ولم تقل أوَّل من قال الشعر أو أبدعه. وأنا أقول لك أن الكتابة الهيروغليفية في مظاهرها التصويرية الأولى هي أقدم الكتابات في العالم، والشعر في مفهومه الأعمق ليس هو المؤلفات الشعرية المدونة وحسب، ولكن الشعر بالأساس رؤية وأفق وروح وممارسة ذهنية ووجدانية وروحية يمارسها الإنسان وهو يتأمل ويتفاعل بكلِّ حواسه ومداركه وجوارحه مع ذاته ومع الطبيعة والعالم بحثًا عن بدئه ومنتهاه، وشواغله وهمومه وقضاياه، وغير ذلك.

كل هذا هو مجال الشعر وموضوعه ومسارات ممارسته الفعلية عبر خفقات وخلجات النفس البشرية. وهي أمور لا نستطيع نسبتها للمصريين القدماء وحدهم، فهي قابلة لأن تسبق إلى خواطر غيرهم من الأقدمين. ولكن قياسًا بالآثار الموثقة فإن المصريين هم أقدم من مارسوا الفنون التعبيرية عن سائر ما يتجلى على النفس من تلك الآفاق، ولذلك سريعًا ما واصلوا عنايتهم بالفنون التعبيرية، وخاصة التصويرية بين المادة والتجريد، وطوروا في قرون قليلة قبل التاريخ وسائلهم التعبيرية حتى تكاملت قبل قرابة ستة آلاف عام لتشمل كل ما تشعر به وتعبر عنه الحواس الخمس والحدس الإنساني الخارق، والذي تُوِّج بالدُّرَّة العليا من تاج المنجز الثقافي البشري، وهو اختراع النظام الهيروغليفي، ومعه انطلق التعبير الشعري بالصورة وبالكلمة وبالرمز وبالإشارة، حتى اكتملت أسلوبيات الإبداع المصري القديم ببزوغ النصِّ السردي والشعري النضيج النظيم في متون أهرامات الأسرة الخامسة في سقارة بالجيزة.

وعلى هذا أرى، من المنظور التاريخي الآثاري التوثيقي، أنه ليس هناك من قال أو كتب الشعر قبل المصريين القدماء؛ لأن فنون الكتابة لم يكن لها وجود يُذكر قبل ظهور أشكال التعبير الفني بالكتابة الهيروغليفية ومنذ تجلياتها التصويرية الأولى في عصور ما قبل التاريخ.

والشعر وإن كان فنًّا كلاميًّا شفاهيًّا وغنائيًّا فطريًّا، فهو لا يرتبط بالضرورة بمعرفة الكتابة أو ظهورها من عدمه، هذا صحيح، ولكن لا يوجد دليل آثاري يُثبت تأريخًا أقدم للممارسة الشعرية مِن نسبته للمصريين القدماء في الإبداعات الهيروغليفية التصويرية والكلامية، أي بالصورة، وبالكلمة، أو بهما معًا. والشواهد الأثرية ومراقبة نشوء وتطور الفنون والآداب واللغات الإنسانية، إنما تثبت أسبقيتهم في الانطلاق الباكر الوثَاب في مضمار السبق الثقافي والحضاري على مستوى الوعي والممارسات الإبداعية الخلاقة.

تاريخ الإضافة: 2024-10-16 تعليق: 0 عدد المشاهدات :693
3      0
التعليقات

إستطلاع

مواقع التواصل الاجتماعي مواقع تجسس تبيع بيانات المستخدمين
 نعم
69%
 لا
20%
 لا أعرف
12%
      المزيد
خدمات