وصلت إلى القاهرة في اليوم الأول لتطبيق حالة الطواريء، وهو القرار الصعب الذي اتخذته حكومة ثورة 30 يونيو لمواجهة أعداء الوطن.
رغم قلقي على "مصر" في هذه المرحلة التاريخية التي يمر بها، .. كنت أمنِّى نفسي بتجربة صحفية مثيرة، إذ أنني أؤمن أن "الصحفي" نفسه أهم مصادر المعلومات. عندما يتحرك في الشوارع تتحول "أذناه" إلى جهازي استشعار عن بعد، و"عيناه" أحدث جهاز تسجيل توثيق. أما "دماغه" فتتحول إلى مركز للاستخبارات والدراسات وتحليل الرأي.. يلتقط المعلومة على الهواء مباشرة لحظة حدوثها بلا وسيط أو سمسار. أنت في هذه الحالة في حضرة "الحقيقة" .. الواقع الذي لايكذب أبدا.
ذهبت إلى القاهرة بلدي، وأنا أستدعي حالات الطواريء في دول أخرى في العالم، وخاصة "حظر التجول"، وهذه البيئة رغم أنها خطرة لأصحابها مجال خصب للصحفي، المعارك، والحروب، وبؤر التوتر بيئات مثالية للمبدعين الباحثين عن الخلق، والإبداع، والمغامرة، وفرص تحدي ثلاثية الجهل، والمنع، والرقابة.
ولكني أعترف أنني مُنيت بخيبة أمل . فمن مطار القاهرة الذي بدا عاديا مزدحما كما ألفته من قبل، وحتى شقتي في حي الهرم لم ألحظ مظهرا أمنيا واحدا، غلب عليّ الحس الوطني وقلت لنفسي بغضب.. أين الكمائن، وأين التجهيزات الأمنية؟ .
شهر كامل قضيته في "المحروسة"، تجولت في طول البلاد وعرضها .. سافرت إلى القاهرة، والإسكندرية، وطنطا، والزقازيق .. وغيرها .. تجولت في الشوارع، وركبت سيارات الأجرة، والميكروباص، وعربات "التوك توك"..، حتى الموتوسيكل..، استمعت إلى البسطاء، والمترفين، وتحدثت مع مواطنين، وباعة، وضباط وجنود، سيدات ورجال وأطفال، وتشاجرت مع موظفي مصالح حكومية، وسائقين.
راجعت مكاتب البريد، والسجل المدني، والجوازات، .. جلست في المقاهي، ومطاعم الفول، والكشري، وكافيهات فنادق النجوم الخمس، .. تجولت في قرى، ومدن، وتمشيت على ترع صغيرة، وشواطيء ساحلية..، صليت في مساجد وزوايا ومقامات أولياء الله الصالحين .، تحدثت مع ليبراليين وإخوان وسلفيين ..، عاصرت المواجهات التي حدثت بين تنظيم "الإخوان" والشرطة في مسجد الفتح، ورمسيس، وشارع صلاح سالم، ومحاولة اغتيال وزير الداخلية.. وغيرها من المواقف والأحداث، وشاهدت مظاهرات الإخوان.
بعد 30 يوما قضيتها في مصر . أدركت في النهاية أن "القاهرة" لا تواجه الإرهاب فقط بالحل الأمني، ولكنها تواجهه أولا بـ"البركة"، و"التاريخ"، و"البيئة"، و"الجغرافية".
"البركة" التي يتعامل بها المصريون في حياتهم لها دور كبير في المواجهة، ورغم أنها ـ عند الكثيرين ـ شيء غيبي لا يتسق مع الواقع . إلا أن التاريخ أثبت فاعليتها، لقد تعهد الله بحفظ المصريين عندما قال "أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين"، وقال رسوله الكريم إن "أهلها في رباط إلى يوم القيامة" .. البركة عند المصريين تعبير عملي للإيمان والتوكل على الله، ومن توكل على الله فهو حسبه، لذلك سينتصر المصريون على الإرهاب بعهد الله والتوكل عليه.
التاريخ رأس حربة في حرب مصر ضد الإرهاب، لأن المصريون ليسوا شعبا بدائيا يتعلم الحضارة، ولكنه شعب ضارب في أعمال التاريخ، وقد مر عليه العديد من الغزاة، وتمكن من دحرهم وقهرهم، ولعل هذا أحد أسباب تسمية عاصمتها بـ "القاهرة".
المجتمع المصري بطبيعته، وتدينه، وتقاليده، وسخريته، ومرحه، وطابعه القروي العفوي البسيط بيئة طاردة للإرهاب، وهذه البيئة هي التي ستهزم المجرمين، وتطردهم شر طردة.
لقد وهب الله لمصر موقعا جغرافيا فريدا، وأرضا مترامية الأطراف ، وهذا الاتساع الجغرافي الكبير جعل من العمليات الإرهابية نقطة في بحر، أي نعم تتسبب العملية الإرهابية في ضحايا وآلام .. ولكن كبر حجم القطر المصري جعل تأثير هذه العمليات التفجيرية على الصعيد السياسي محدود، بل منعدم، تماما كـ "البمب الذي يفرقعه الأطفال في الأعياد.
ستنتهي أموال دول الموت الراعية للإرهاب في مصر، . سيطارد المجرمون في قرى ومدن مصر بالعصي، وأواني السيدات، والشباشب..، ويسقطون واحدا واحدا، قبل أن تهتز شعرة واحدة من رأس الوطن، .. ستظل مصر دائما محروسة بأمر الله وحفظه، وعنايته ، و"سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".