المادة (12) في دستور مملكة "مصر والسودان" الصادر عام 1923م ينص على أن "حرية الاعتقاد مطلقة" فماذا حدث للمصريين ؟. ومن الشيطان الذي زرع في هذه الأمة "جرثومة التكفير"؟.
لقد عرف المصريون بالتسامح مع أصحاب الديانات الأخرى، لم نلحظ على مر تاريخهم الطويل أنهم حاربوا مذهبا، أو ضيقوا على عقيدة، كان في مصر على الدوام المسلم، والمسيحي، واليهودي . كان بها السني والشيعي .. حتى البهائي، ومهما اختلفنا في المعتقدات، كان الحوار هو السبيل الوحيد للتغيير.
لذلك كانت جريمة قتل الشيعة الخمسة في قرية أبو مسلم بالجيزة جريمة غريبة تضع أكثر من علامة استفهام؟.
لا يمكن أن ندرس أي جريمة بدون التعرف على الظروف المحيطة بها، والمدقق في هذه الواقعة سيكتشف بسهولة أن المناخ المحيط بها ساعد أو حرض على تنفيذها .
فمنذ أيام وفي استاد القاهرة نظمت ما تسمى "الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح" احتفالية تحت شعار "نصرة الشعب السوري" حضرها الرئيس مرسي، وانبرى شيوخ السلفية، ومنهم محمد حسان، ومحمد عبدالمقصود في التحريض ضد الشيعة، فطالب الأول الرئيس بإغلاق الباب أمام "الرافضة"، وهو لقب يطلقونه على "الشيعة، وهو يرد بذلك على قرار مرسي بفتح باب السياحة للإيرانيين، وهو ما أثار اعتراضات البعض، وخوفهم من أن يكون ذلك بابا لنشر "التشيع"، ووصف الثاني أتباع هذه الطائفة بـ"الأنجاس"، وهو وصف يستخدمه بعض السنة في سب الشيعة على المنابر.
الغريب أن الرئيس صمت على هذا التحريض الطائفي البغيض، بل وصمت عندما انبرى عبدالمقصود بـ"تكفير" 20 مليون مواطن وقعوا في حملة "تمرد" التي تدعو إلى تظاهرات في 30 يونيو بهدف سحب الثقة من الرئيس مرسي، والدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة.
ساهم في نجاح هذا التحريض المقزز حالة الانفلات الأمنى، وغياب القانون، وضعف الدولة التي يعاني منها الشارع المصري منذ عامين، وهي حالة تفاقمت في عهد الرئيس مرسي، ولعل جرائم القتل والسحل التي كثرت في الآونة الأخيرة دليل على ذلك، وفيها يقوم مواطنون بتطبيق الحد الشرعي ـ وفقا لوجهة نظرهم ـ على المتهمين بجرائم الخطف أو السرقة أو الاغتصاب، والتمثيل بجثثهم في الشوارع. بعد استجواب يفتقد للمعايير، معتقدين أنهم بذلك يحققون "العدالة المجتمعية"، خاصة في ظل تقاعس الشرطة ـ وهي صورة تؤكد غياب الدولة عن المشهد الاجتماعي لصالح المشهد السياسي.
ساعد على ذلك أيضا فتاوى التكفير المنفلتة التي أصبحت تنطلق من هنا وهناك، دون مسوغات شرعية أو منطقية، والتي أشاعت جوا من الرفض والكراهية والعداء للآخر، وهذه الفتاوى في الحقيقة تصريحات مفتوحة بالقتل، يمكن لأي شخص أن ينخدع بها فيتطوع للتنفيذ، معتقدا أن ذلك سيدخله الجنة.
"مذبحة الشيعة" ـ وهي الأولى من نوعها في مصر ـ مؤشر اجتماعي خطير، يشي بجرائم أخرى مقبلة، بعضها سيكون ضد أصحاب الديانات والمذاهب الأخرى، وبعضها الآخر ضد المعارضين، وربما تمتد لتشمل أي صاحب رأي مخالف، حتى لو كان الخلاف على أسبقية وضع السيارة في موقف العمارة.
تأجيج الخلاف الديني، خاصة"السني الشيعي" جريمة مدبرة هدفها تقسيم الوطن إلى دويلات صغيرة متباعدة يسهل السيطرة عليها، وقد نجحت هذه المؤامرة في دول أخرى مثل لبنان، والعراق، والسودان، ويتم تنفيذها حاليا في مصر وسورية، واليمن.
كتب لي صديق "لقد ضاعت مصر التي نعرفها"، جرحتني العبارة، لأن مصر تتعرض لمحاولة شرسة لتغيير هويتها التاريخية، ورغم أن المؤامرة مكشوفة، فإن مصر "الطائفية" لم نكن نتصورها أبدا .
في عهد الإخوان خرج المجرمون من السجون، وارتدوا البدلات الأنيقة، وأصبحوا ساسة، ورؤساء أحزاب، وأطلقت يد الإرهاب تحت شعار "الجهاد"، . في هذا العصر خرجت "الثعالب" من الغابة، وارتدت النظارات الشمسية، وركبت السيارات الفارهة، وأصبح القتلة مسؤولين ومحافظين.
في هذا العصر تغير وجه مصر الوسطي المعتدل الجميل، ليصبح كما رأيناه في حفل الاستاد .. ذقون طويلة تكرس ظاهرة الشكل في الإسلام، وجماهير غفيرة تصرخ بهتافات مذهبية، وعصائب على رؤوس الأطفال عليها كلمة "لا إله إلا الله"، وهو مشهد يذكرنا بتجمعات الشيعة في العراق، أو الضاحية الجنوبية في لبنان.
في هذا العصر عرف المصريون لأول مرة الجريمة المذهبية، وهي التي كانت دائما حضنا لكل الأديان، والمذاهب، والتيارات، والطرق الصوفية، وساحة مشرعة للفن والجمال والحرية.
أتفق مع صديقي الذي قال إن مصر التي نعرفها غابت في غبار الخطاب السياسي الرديء، والفشل الإداري، والوجوه القبيحة ، ولكنني لا أتفق معه في تعبير "الضياع" لأن مصر التي هزمت الغزاة، ودفنت في أرضها العملاء، والخونة، والمستعمرين، قادرة على "هضم" الإخوان، وإخراجهم في فضلاتها اليومية.