على طريقة العلماء الذين يصنعون كائنا خرافيا في المختبر، ولكن في لحظة ما يكبر الوحش، ويفقد العلماء السيطرة عليه، ويحطم قيوده، ويخرج إلى الشوارع لينشر الرعب في المجتمع، رعت الأمم المتحدة النظم الديكتاتورية في العالم، وصادقتها، وتغزلت برؤسائها، وخصصت لهم الكراسي الوثيرة، ولكن عندما اندلعت الثورات العربية، وبعد صمت طويل، اضطرت "الأمم المتحدة" إلى ركوب الموجة لتعلن ـ بكلام محرف كالذي يصدر من المشلول ـ أن هذه الأنظمة فقدت "مصداقيتها"، وأيدت التحرك العسكري ضدها لحماية المدنيين.
فجأة استيقظت الأمم المتحدة لتدرك أخيرا أن هذه الأنظمة ديكتاتورية. "بلا مصداقية"، واكتشف أنها "غير شرعية"، حدث ذلك في ليبيا ، ثم سورية، وسيحدث دائما، لأن الأمم المتحدة أصلا فقدت شرعيتها، فلم تعد منذ سنوات طويلة المعبر الحقيقي عن واقع الشعوب.
كان من الممكن للأمم المتحدة منذ سنوات طويلة أن تتحرك وتقيّم الوضع السياسي للدول، وتصدر تقارير عن هذه الأنظمة، ـ على غرار ما تصدره الوكالة الدولية للطاقة الذرية ـ لتقدم الفتوى السياسية حولها..، هل هذه دول ديموقراطية يتفق نظام الحكم فيها مع المعايير الدولية، ومبادئ حقوق الإنسان؟، أم أنها أنظمة ديكتاتورية قمعية لا شرعية لها، ولا تتفق مع قواعد الحكم النزيه.
ولكن "المتحدة" فعلت ما فعل المنافقون الذين أحاطوا بنظام مبارك.. فقد نافقوه وأيدوه وساهموا في سقوطه وسقوط الوطن، وقامت الأمم المتحدة ـ وما زالت ـ بدون المنافق الذي ينافق الأنظمة، ويمنحها الدعم والمشروعية. لذلك كان تحولها المفاجئ على وقع ثورات الشعوب غريبا ومحرجا ومثيرا للاشمئزاز.
نفس الأمر ينطبق على أنظمة غربية عديدة صنعت الوحش وربته وكبرته، وعندما ثارت الشعوب، تنكرت له، وتبرأت منه، وهتفت مع الهاتفين بسقوطه. وكما يقول المثل "معاهم معاهم .. عليهم عليهم".
لماذا لا تقوم المنظمة الدولية بدورها الأخلاقي قبل السياسي، وتحدد الأسس العامة للحكم الديموقراطي الذي يمثل تطلعات الشعوب، ولتبدأ بالتوعية، وحث الأنظمة المخالفة على توفيق أوضاعها كما توفق الشركات المخالفة أوضاعها، وبعد فترة معينة يمكن مواجهة هذه الأنظمة، وحرمانها من المزايا الدولية، لماذا لا يكون هناك تصنيف سياسي على غرار التصنيف المالي الذي تقوم به المؤسسات المالية الدولية. بحيث يرتفع تصنيف الدولة الديموقراطية الحرة، وينخفض تصنيف الدولة الديكتاتورية.
موقف الأمم المتحدة الآن يشبه قائد الشرطة الذي يصادق المجرمين، أو مأمور السجن الفيتنامي الذي حوكم مؤخرا بتهمة بيع المخدرات للمساجين، أو مدير الشركة الفاسد الذي يقبل في عضوية مجلس إدارته الفاسدين.
لكل جمعية أو ناد أدبي أو علمي شروط للعضوية. فلماذا لا تحدد الأمم المتحدة شروطا للحصول على عضويتها، يكون أولها تمتع الدولة بنظام ديموقراطي حر. ولا تقبل عضوية الدولة التي لا تتوفر فيها هذه الشروط، حتى لا يدخل "المنظمة الدولية" "كل من هب ودب".. الصالح والطالح، والشريف واللص، القاتل والضحية.
أعلم أن الصورة قاتمة، وعدد الدول الديموقراطية في العالم قليل، ولكن هناك دور مهم للمؤسسات الدولية في مجال التوعية، والحث على الديموقراطية، وإعادة تأهيل الأنظمة لتتحول من أنظمة شمولية إلى أنظمة تعددية. هناك دور لهذه المؤسسات في مكافحة الديكتاتورية والفساد السياسي.
الأمم المتحدة تحتاج إلى إعادة هيكلة، وحركة تصحيح تاريخية لتعديل أهدافها، وعضويتها وإصلاح مؤسساتها..، ولتكن البداية بإعادة تعريف "الدولة" على أن يحدد هذا التعريف بناء على الوضع السياسي ومشروعية الحكم، ومن العناصر التي يجب إعادة النظر فيها عدد السكان، فلا يعقل أن تساوي المنظمة بين دولة عدد سكانها مليار و336 مليون نسمة كالصين، ودولة عدد سكانها 400 ألف نسمة كسلطنة بروناي.
فشلت الأمم المتحدة في ملفات دولية كثيرة، أهمها الملف الفلسطيني، والأمر لم يقتصر على الفشل، بل كانت في كثير من الأحيان عونا للظالم على ظلمه، كما حدث في غزو العراق وأفغانستان ومذابح البوسنة، وغيرها..، لقد قامت المنظمة الدولية في بعض الأحيان بدور المحلل لتشريع الأعمال القذرة المنافية للمبادئ والقيم.
شكل الأمم المتحدة وفقا للوصف العامي "وحش"، عندما رعت الأنظمة الديكتاتورية سنوات طويلة، وعندما ثارت الشعوب ضدها، تلعثمت وارتبكت، واضطرت لتتكلم للمرة الأولى، وتعلن أن هذه الأنظمة فقدت "مصداقيتها"، وحتى هذا الموقف المغاير الجديد جاء هزيلا خجولا، فلم تؤكد "الأمم" ـ كما هو مفترض ـ أن هذه الأنظمة .. أنظمة ديكتاتورية شمولية فاقدة الشرعية.
إصلاح الأمم المتحدة صعب، لأنها أصبحت ملتقى للمصالح ومطبخ لإطعام الوحوش، لذلك من الأفضل "تنكيسها" كما نفعل مع العقار الذي صدر له قرار إزالة، والبدء فورا في تأسيس اتحاد عالمي جديد. وفي حالة تعثر ذلك. لا مفر أمام الدول الحرة أن تبدأ في تأسيس اتحاد عالمي منفرد تكون الديموقراطية حجر الأساس فيه.