في العمل الصحفي هناك تقليد جميل لا تجده في المجالات الأخرى، وهو "الزمالة"، فعندما يخاطب رئيس التحرير محررا، أو مخرجا فنيا، أو مصححا لغويا، أو أيًّا من الذين يعملون في صحيفته، كتابيا، يخاطبه بلقب "الزميل"، يتساوى ذلك إذا كان الخطاب الموجه إلى شخصية قيادية، أو مراسل صغير في قرية نائية.
عملت مع سبعة رؤساء تحرير كانوا جميعا يخاطبونني بـ "الزميل" في كافة التوجيهات، وكنت دائما أقدّر هذا الأسلوب الخاص والراقي في التعامل، والذي لا نجده إلا في الوسط الصحفي، وأتوقف كثيرا عند مدلولاته المهمة.
الصحفي يؤدي عملا ينطوي على قدسية كبيرة، وإذا لم نستطع إلغاء صفة "الموظف" عن الصحفي لاعتبارات إدارية، والصراع التقليدي بين الإدارة والتحرير، فلنقل إذن إن حجم عمل الصحفي 85% رسالة، و15% وظيفة، فهو يعمل من أجل رسالة سامية، يحمل بين جوانحه دائما ضمير المجتمع، ونبضه الحي، هو المرآة التي تكشف الواقع ومثالبه، هو شرلوك هولمز الذي يبحث دائما عن الأدلة، يجمع شعرة هنا ، وظفرا مكسورا من هناك، يبحث عن شيء لا يرى بالعين المجردة اسمه "الحقيقة".
والعاملون في المجال الصحفي، وإن اختلفت مراكزهم الوظيفة "زملاء" يتحدون ويتساوون جميعا في الدور، وهو الرقابة على المجتمع، ففي ميدان المعركة يتساوى القائد والجندي، .. الكل يحارب، والكل مستعد للشهادة من أجل "الوطن"، .. الكل يعمل من أجل هدف واحد نبيل وهو النصر.
والعمل الصحفي يتضمن في طبيعته عنصرا هاما لابد من توفره، وهو "الإبداع"، وللإبداع مقتضياته الخاصة التي تختلف تماما عن الأداء الوظيفي التقليدي، فهو يستلزم قدرات خاصة يجب أن يتمتع بها الصحفي، كالخلق، والتطوير، والكشف، والتوجيه، والدعوة، والتوعية، والتنوير، والتثوير، والإيثار، وبعد النظر.
أسوأ الصحف التي تعاملت مع الصحفي كموظف، وأنجحها التي تعاملت معه ككيان مبدع يساهم في صياغة عقل ووجدان أمة.
الصحفي يعمل 24 ساعة، .. في مكتبه، وفي الشارع، وفي البيت، .. حتى وهو نائم، يدور عقله باحثا عن فكرة، أو خاطرة، أو دليل، وهو في كل ذلك لا يكل أو يمل، حتى وإن ضاقت دروبه، ونزفت جراحه، واكفهرت ملامحه، .. يحلق كطائر العنقاء، يعمل كسيزيف، كبندول الساعة الذي لا يتوقف أبدا.
و"الزمالة الصحفية الفخرية" صيغة لم تحددها قوانين إدارية أو توجيهات شفهية، فليس هناك من وجّه باعتماد هذه "الصيغة" في الصحافة، ولكنه الحس الصحفي الجمعي النبيل في واقعه ومسؤولياته، ومن هنا كانت الأهمية، وكان الإنجاز.
والسؤال الآن.. لماذا لا نعمم تجربة "الزمالة الصحفية" التي ثبت نجاحها في قطاعات العمل الأخرى، لماذا لا نستبدل القواعد الوظيفية الروتينية، والتي تنحصر في "رئيس ومرؤوس" بالزمالة النبيلة التي يندرج في إطارها الجميع، لماذا لا نعلي من قيمة التآخي في العمل، ونؤسس لروح الفريق الواحد، ليخرج العمل من طابعه التقليدي الجامد إلى طابع متجدد، وأسمى، وأشمل.
لماذا لا نطبق هذه الصيغة في المصانع، والمؤسسات، والمدارس، والجامعات، ودواوين العمل الحكومية، لنبرز بذلك الهدف الأسمى من أي عمل، وهو الإنتاج والتميز.
بذلك سندفع العمل إلى آفاق جديدة، ونقضي على أمراض العمل المعروفة، كالفوقية، واللامبالاة، والإهمال، وعدم المسؤولية، والتفرقة بين العاملين، والسخط التاريخي على السلم الوظيفي.