يظن البعض أن الذي يسافر للعمل بالخارج يحمل "مغرفة كبيرة"، ويغرف بها الأموال من كومة لا صاحب لها من العملات المحلية، والصعبة، وقطع الياقوت، والزمرد، والمرجان .
هذه الفكرة الذهنية الخاطئة مازالت موجودة في أذهان الكثيرين، الغريب والبعيد ، حتى أسرة المغترب نفسه لا تريد أن تصدق أن ابنها يغرف نعم، ولكن من كومة كبيرة من الأحزان، والقلق، والتوتر، وأن الأموال التي يجنيها في الغربة لا تساوي ما فقده مقابلها من سكينة وراحة بال، وبعد عن الأهل والأصدقاء.
هذه الصورة الخاطئة للمغترب تعدت للأسف في بعض الأحيان شعور الحسد الطبيعي، لتصل إلى الموقف السلبي، حيث وصل الأمر بالبعض إلى النظر بازدراء إليه، قائلا أنه أخذ حقه في الخارج . فكيف يطالب بحقه بالداخل؟.
حتى بعد انكسار موجة الرواتب المرتفعة في الدول الجاذبة للعمالة، وانطلاق مشاريع التوطين بها، لم ينجح ذلك في كسر الصورة النمطية عن المغترب الذي يكتنز الأموال.
والاغتراب باب شعري وأدبي، وفصل اجتماعي مهم لا يمكن تجاهله، وإن كان هذا الفصل عرفته أمم محددة عانت في بعض فتراتها من الظروف الاقتصادية السيئة.
ولا نقصد بذلك الاغتراب النفسي الذي له مدلولات وجدانيه، .. لا أقصد الانتقال الذي تفرضه أحيانا أمور العمل الذي يحتم أحيانا تنقلات خارجية، أو السياحة الشخصية أو العائلية، ما أقصده هو الاغتراب الحقيقي، ببعد الإنسان عن وطنه، ولأكون أكثر تحديدا .. ما أقصده هو سفر الإنسان بحثا عن "لقمة العيش".
السعي في الأرض بحثا عن الرزق والحياة الأفضل أمر إلهي، و"العربي" القديم أساسا تعود على الانتقال من مكان إلى آخر وراء الكلأ، ومصادر المياه، لذلك برزت لديه أهمية "المكان". لقد تعودت الشخصية العربية ـ بعد رحلة معاناتها الطولية في البحث عن وطن ـ على التمسك بالمكان والوقوف عليه حتى ولو كان الأرض الخراب، ، وهى عكس أنماط شخصيات أجنبية كثيرة ليس للمكان دور في تطورها الاجتماعي، وإنما تؤمن بالحل والترحال، وأن وطن الإنسان هو الأرض التي يعمل بها.
ولكن متى بدأ "الاغتراب المصري"؟، وما هي العوامل التي دفعته، وحولت مصر من دولة دائنة لبريطانيا العظمى، إلى دولة "تقترض" من كل دول العالم، وكيف تحول "السفر" من ترفيه تحرص عليه العائلات والأسر في الستينيات إلى رحلة موت يسقط فيها مئات المهاجرين سنويا؟، وما هي التأثيرات النفسية، والاجتماعية الإيجابية والسلبية لهذا الاغتراب؟، ومتى يتوقف هذا النزيف الاجتماعي؟.
البعض يرى أن الموضوع بسيطا، لا يستحق هذه الضجة، وأن السفر طبيعة بشرية، وأن له ـ كما يقولون ـ "7 فوائد"، ولكن سيختلف الرأي إذا تذكرنا العدد الضخم للمهاجرين المصريين، لن نمارس المن والسلوى الذي يلجأ إليهما بعض المغتربين كمحاولة نفسية للفت الانتباه، واستجداء عطف الوطن الذي يستقبل أبنائه أحيانا بحضن من الشوك، ونذكر أن تحويلات هؤلاء المغتربين هي ثاني أعلى دخل في البلاد، ولكن فقط سنذكِّر بحقوق المغترب، ونطالب بها بعد سنوات طويلة من الإهمال.
إذا قدَّرنا عدد المصريين بـ 90 مليونا، وحاولنا تحديد عدد المهاجرين المسجلين وغير النظاميين ، والخارجين عن الإحصاءات الرسمية. سنجد أن 12 مليونا على الأقل من المواطنين يقيمون بصفة دائمة، أو مؤقتة خارج الوطن.
ولو قدَّرنا أن كل مغترب يؤثر تأثيرا مباشرا في أربعة أفراد فقط من عائلته، أم، وأب، وأخوين أو أختين، سنكتشف أن نصف المصريين يقعون تحت التأثير المباشر للاغتراب، سواء أكان هذا التأثير، نفسيا أو اجتماعيا، أو اقتصاديا. من هنا سنكتشف أهمية الأمر، بل خطورته.
آن الأوان لكتابة "التغريبة المصرية" التي تشبه "تغريبة بني هلال" التي جمعها الأبنودي، ليس لاجترار الأحزان والبكاء على الأطلال، ولكن لنتعلم من هذه التجربة، وبناء سد عال اجتماعي جديد، للاستفادة من كنوز الوطن التي يذهب بها الفيضان.
أنا مع التشجيع على السفر، والبحث عن فرص للحياة الأفضل، لأن تواجد المصريين خارج الوطن عامل مهم لنشر التجربة المصرية الخلاقة سواء على الصعيد الثقافي أو العملي، ولكن في المقابل يجب العمل بجدية على نقد التجربة، وتقويمها، وترشيدها، وتحسينها، والحد من آثارها الجانبية.
المقترحات كثيرة، إذا جلست مع أي مغترب سيقول لك .. نريد كذا، وكذا، وكذا .. ، ولكن المهم أن نفتح "ملف المغتربين"، ونبدأ في دراسته بروح ثورية جديدة، عندها سنكتشف أننا أهملنا كنزا مهما، وعنصرا هاما من عناصر عبقرية مصر ، وهو عنصر "الإنسان".