التاريخ كلمة فارسية عربت لتدخل قاموس اللغة العربية المهيب، لتكون اللفظة الأهم والأعلى منزلة، والأكثر مهابة وكبرياء، إذا ذكرت فإن المعنى يتسع، والشمولية تتحقق، والقيمة تتجسد، والسامع ينتبه.
التاريخ ذاكرة البشرية التي تسجل كل شيء، الأحداث والتواريخ، والأمكنة والأشخاص، والمزايا والعيوب، الفخر والعار، منذ فجر البشرية والتاريخ يكتب ويكتب، حتى تعب من الكتابة، وفي كل لحظة تنضاف شخصية عظيمة أو جريمة مروعة أو انجاز حضاري، عمل فدائي أوعمل قذر.. سيان ، فالتاريخ بلاقلب، يكتب و "خلاص" دون ان ينفعل أو يهتز.
كل صباح يهتز الصولجان، ويقرع الحارس الأسود على إطاره النحاسي قرعة الزمن، ويخرج الشيخ العجوز ذو اللحية البيضاء الطويلة، ويمسك ريشته العتيقة ليسجل بمداد لا يمحى أبدا كلمة أو سطرا أو صفحة.
وفي التاريخ صفحات بيضاء، وأخرى سوداء، تماما كالجنة والنار، يضع ما يشاء في الصفحات البيضاء، ويضع ما يشاء في الصفحات السوداء، يرفع من يشاء إلى أعالي السماء، وينزل من يشاء إلى أسافل الأرض.
الحكماء يقولون أن التاريخ لا يكذب، والمؤرخون يمنحونه العصمة، والشعراء والأدباء والاعلاميين بالاستعارة رفعوه إلى منزلة الأنبياء، والعامة والبسطاء يمنحونه الثقة المطلقة.
يحدث ذلك رغم أن الواقع يؤكد أن التاريخ في أحيان كثيرة يجانب الحقيقة، وهو ليس معصوما من الخطأ، ففي كثير من الأحيان وضع التاريخ أشخاصا في سلة القمامة، وبعد فترة من الزمن تبين أن مكانهم حديقة الخالدين. وفي كثير من الأحيان رفع التاريخ أشخاصا إلى القمم، وبعد فترة من الزمن اكتشفت الأجيال أن مكانهم الحقيقي هو القاع، كم من أشخاص أحرقوا وشردوا وتآمروا وسرقوا ونهبوا، ولكن التاريخ العظيم نسى أو قل تجاهل ذلك.
زعماء لطخوا أيديهم بدماء الأبرياء، لكن التاريخ المتثائب تغاضى و "طنش"، وشطب الجريمة بالممحاه، قدمهمكحمائم هم في الأصل صقور جارحة غادرة.
في الاتجاه الآخر كم من أشخاص قدموا للبشرية إنجازات عظيمة، ولكن التاريخ كان ضعيف الذاكرة، لم يحفظ أسماءهم، أهل عليهم التراب، فتواروا في مقبرة النسيان.
والتاريخ ليس نزيها، فبالمال يمكنك أن تدخله كما تدخل الملاهي، بالغش والزيف والخداع يمكنك أن تنجح في الامتحان، ليس ذلك فقط، وإنما بسهولة يمكن أن تصبح الأول على العالم، وإن أصابك الملل وزهقت من التاريخ، واستعجلت المجد، يمكنك أن تؤسس تاريخ قطاع خاص، تكتب فيه ما تشاء، امتدح نفسك، وتغزل بسجاياك، وعدد فضائلك، ضع الأسئلة والأجوبة، والمقدمة والعناوين، واكتب ماتريده، فنت أدرى بنفسك من غيرك، و"أهل مكة أدرى بشعابها".
التاريخ يكذب أحيانا، يغمض عينيه، يتغاضى، يقبل الرشوة والإكرامية والبقشيش بجميع العملات، فيدلف إليه القتلة والمرتشون والخونة واللصوص، فيتساوى على صفحاته من أوقد الشمعة ومن أطفأها، ومن نادى بالحياة ومن أمر بالموت.
التاريخ يغير جلده أحيانا كالحرباء، يخلع قناع اللصوص، ويرتدي عباءة الصلاة، يصبح فجأة مواطنا شريفا، أنظر إلى الحروب ماذا فعلت، وكم شردت، واسأل نفسك من هو القاتل الحقيقي؟. أنظر إلى زعماء العالم واحص معي كم منهم طغى وحكم بالحديد والنار، وكم منهم سرق وأثرى على حسباب الشعب وجراحه؟.
انظر الى القضية الفلسطينية وعدد معي عدد الذين خانوها وطعنوها في الظهر، وباعوها في أسواق النخاسة، وبعد سنوات عادوا يتباكون عليها، يعانقون قتلاهم، يقبلون الرؤوس أمام شاشات التلفزة، ويذرفون دموع التماسيح.
في البوسنة قتلوا وذبحوا وشردوا، فقل لي أين الجناة؟، في كوسوفو هل رأيت المقابر الجماعية والقتلة الطيبين؟، في صابرا وشاتيلا بقروا البطون وذبحوا الأطفال وأحرقوا القرى. فمن الموهوب محرك العرائس؟، في فلسطين من شرد الأبناء وحصد الأمهات والأطفال بالبنادق الأتوماتيكية، من هدم المنازل على ساكنيها وأبدع المجزرة المروعة؟.
انظر معي إلى النظام العالمي الجديد، يحاصرون العراق وليبيا وإيران والشعوب الاسلامية المقهورة، بينما يعربد الصهاينة كذئاب جائعة في القدس الشريف، يمارسون القهر والبطش والعمليات القذرة، ثم يتشدقون بحقوق الانسان، يعون الى وقف التسلح وحظر السلاح النووي، ومصانعهم تعمل في الخفاء، وتنتج أخطر الأسلحة وأشدها فتكا، يتوسطون للسلام ووعملاؤهم يزودون الجاني بالسلاح، ينادون بالديمقراطية، وفي الوقت نفسه يستخدمون "حق" الفيتو لقهر الديمقراطية ذاتها.
التاريخ يغسل يديه جيدا، فلا يصبح للجريمة أثر، ولا هم يحزنون، وتقيد الواقعة ضد مجهول، الجناة طلقاء في شوارع المدينة، ولكن التاريخ يتجاهل، يغمض عينا، ويفتح أخرى كالثعلب.
التاريخ لص أفاق سكير، والمؤرخون سدنة نبي كاذب.