الفتنة آفة عظيمة خطرة، قد تكون بسيطة في حجمها، ولكن آثارها مدمرة، تماما كاللغم الذي يدفن تحت الأرض ليأتي صاحب الحظ العاثر، وما يكاد يلمسه حتى ينفجر مخلفا الأشلاء والضحايا، شخص ما يحيك الفتنة، يتسلل كالشيطان، ويدبج وقائعها وشواهدها الكاذبة، فيتقاتل الأخوة، ويتصارع الأحباب، ويتفجر الدم، في هذه الأثناء يكون الفتان قد انسلخ وركض بعيدا ليختبيء، يراقب المأساة، ويغمغم فرحا لنجاح مهمته الخبيثة.
وقد أدرك الإسلام خطر الفتنة وعظم تأثيرها على المجتمع والأمة، فوصفها بأنها أشد جرما من القتل، قال تعالى "الفتنة أشد من القتل"، وقد تعرض الاسلام على مر تاريخه للعديد من الفتن حاكها الكفار والمشركون ليدمروا الاسلام العظيم، ويجهضوا دعوته، وفي بعض الأحيان نجحت الفتنة، وتركت آثارها الدامية، وفي أحيان أخرى ماتت في مهدها مثل نار سكبت عليها الماء.
وفي القرآن الكريم العديد من الآيات التي تتحدث عن الفتنة وتحذر المسلمين منها، وتتوعد من يوقدها بسوء العذاب والمصير، قال تعالى "إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا، فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق".
والافتتان في الأساس هي مهنة أبليس وأعوانه، فعندما طرده الله عز وجل من الأرض، وقال "اخرج منها مذموما مدحورا لمن تبعك منهم، لأملأن جهنم منكم أجمعين" أجاب الشيطان الرجيم "وبعزتك وجلالك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين"، ومنذ هذه اللحظة وإبليس يمارس مهمته بنشاط، يوسوس للناس في العمل والقول، والسر والعلن والقيام والقعود، وفي المنام واليقظة، يزين لهم الملذات ويهون لهم الخطايا، ويحضهم على الفواحش، يبث الأفكار الخبيثة، يوغر الصدور، يوقع بين الأفراد ويضلل الجماعات، يشعل الحرائق في النفوس الهادئة، ويقهقة عندما تشتعل النار.
والفتنة في اللغة هي المحنة والابتلاء، وأصلها من قولهم "فتنت الذهب والفضة إذا أحرقته بالنار ليبين الجيد من الرديء"، محنة تحتاج إلى تحكيم العقل، لأن الخطر داهم، والعواقب وخيمة، هي ابتلاء من الله ليختبر إيمان الناس، فعندما تحل الفتنة يبرز جليا القلب المؤمن الراسخ من القلب الهش الضعيف.
وعناصر الفتنة غالبا موجودة في كل مكان، ولكنها نائمة، يمكن بأي حركة إيقاظها، ذلك لأن الشر موجود، والنفس أمارة بالسوء، لولاحسن النية، فإذا ألغى الناس حسن النوايا وجانبوا الحكمة، وأخذوا من الأمور جانبها السيء، تستيقظ الفتنة وتشتعل، وقديما قالوا "الفتنة نائمة، لعن الله من أوقدها".
والفتنة لفظة شاملة تندرج تحتها كل المعاني القبيحة، كالوشاية والتآمر والاستعداء وسوء الظن والحقد والبغض والكراهية والخيانة والتواطؤ والكذب والخداع. فكل هذه الأشياء عناصر تستخدم في إنتاج الفتنة، هي إذن محصلة للشرور الانساني عندما تجتمع في نفس قبيحة شرسة.
والأمثلة على ذلك كثيرة، ففي حياتنا اليومية عشرات الفتن التي نعتبرها بسيطة ليس لبساطتها، ولكن لاعتياد المجتمع عليها، وبالطبع تكون نتائجها مؤلمة.
وإذا كانت الفتن المسماه ـ مجازا ـ بسيطة يصيب ضررها مجموعة من الأفراد، فإن هناك نوع من الفتن الكبرى التي تصيب شعوبا بأكملها، مثال العديد من الفتن التي مرت بتاريخنا العربي والتي يمكن أن تعد عنها رسالة بحثية شاملة نقسم فيها الفتن إلى أنواع وفصول ودرجات، منها الفتنة التي أشعلت الحرب الأهلية بلبنان، والفتنة التي يحاول البعض إشعالها في مصر بين المسلمين والمسيحيين، مثال ذلك أيضا الفتنة التي اشتعلت بين العراق وإيران، وتلك التي اشعلت حرب الخليج الأولى والثانية.
ولعل الفتنة الأولى في التاريخ هي فتنة إغواء إبليس لآدم وحوء بالأكل من الشجرة المحرمة، بعدها كانت فتنة هابيل وقابيل حيث قتل الأخ أخيه وكانت الجريمة الأولى على الأرض، وأيضا فتنة غزوة أحد وفيها فتن المسلمون المنتصرون بالغنائم، فانتهز الكفار انشغالهم بالغنيمة وانقلبوا عليهم، فهزم المسلمون، وفتنة مقتل الحسين، ومقتل الخليفة عمر بن الخطاب، واغتيال كيندي، وتصفية مارلين مونرو، ومصرع الأميرة ديانا، واغتيال سليمان خاطر، ومقتل يحيي المشد وسميرة موسى، وغيرهم..
عشرات من الفتن تحاك يوميا للايقاع بالشعوب، بعضها ينجح لحبكة الفتنة وإحكامها، وبعضها يفشل لوعي الشعوب، ومن الفتن المقبلة التي توقعها القرآن الكريم ، فتنة المسيح الدجال الذي سيأتي ليفتن الناس في دينهم ويتبعه الضالون.
وقد تحدث الفتنة وتلقي بظلالها السوداء، وتمر السنوات ويبقى سرها محفوظا لا يعلمه أحد، ولكن في لحظة ما ينكشف الستار ليكتشف العالم الجريمة بأسمائها ووقائعها وأدواتها الكاملة.
وقد كانت الفتنة من أهم الوسائل التي تلجأ إليها المخابرات العالمية لتحقيق أهدافها السياسية، والأمثلة على ذلك عديدة، لعل أبرزها استخدام أمريكا للجنة "أونسكوم" المكلفة بالتفتيش داخل العراق عن أسلحة الدمار الشامل مخابراتيا، وتدبيج تقارير كاذبة عن العراق تكون ذريعة لضربه وغزوه.
وفي كل يوم تطل فتنة بين دولة عربية وأخرى، ولكن بحمد الله يسارع الحكماء بإطفائها، ولكن الأعدء لا ييأسون وأجهزة المخابرات السرية لا تهدأ، ولعل الشتات العربي الذي نراه الآن نتيجة طبيعية لفتنة كبرى تحاك ضدنا، ولكن حتى الآن لا توجد بادرة واحدة تؤكد تنبهنا لهذه الفتن، ومن الغريب حقا أننا نعلم أنها فتن، ولكن العجز كمم أفواهنا، وأعمى عيوننا، فغرقنا في سبات أشبه بسبات أهل الكهف.
الفتنة نائمة صاحية، تتجول في الأسواق المزدحمة، تحدق في وجوهنا، تصفعنا بصفاقة على وجوهنا، ولكننا للأسف الشديد لا نرى .. لا نسمع .. لا نتكلم .