يجب أن نعترف أن الشتيمة جزء من الواقع اليومي، انها لغة الشارع، الذي يجمع بين رصيفيه المتعلم والجاهل واللاهي والعابث والضائع الذي فقد أمله في الحياة، الشتيمة لغة حركية ممزوجة بالنقد والاحتجاج والسخرية، لغة خارجة على العرف الاجتماعي، تمارسها الفئة الأكبر من الناس، وهي فئة غير المتعلمين المهمشين اجتماعيا واقتصاديا، وإن كنا لا ننكر أن من المتعلمين من يمارسونها بل ومن المثقفين أيضا.
هناك من يتحدثون هذه اللغة عند الغضب، وعندما يفيض الكيل كما يقولون، فتكون الاستثناء الذي لا ينفى القاعدة، ولكن في المقابل الفئة الأكبر يتحدثون بها دائما، مع الأقران والجيران والعمل وحتى مع الزوجة والأبناء.
ولكن مع رفضنا للشتيمة كأسلوب للتعبير عن النقد أو الرفض أو النقد الشعبي، فإن هذا الرفض لم يتمكن من تغيير الصورة ومن تخفيف تواجد الشتيمة في الشارع المصري. يجب أن نعترف بأن الشتيمة بحجمها وتعبيراتها ومدلولاتها وتركيباتها اللغوية هي في الحقيقة ثقافة .. حتى ولو كانت ثقافة مرفوضة.
ويندرج ضمن ثقافة الشتيمة النكات البذيئة التي يؤلفها الحس الشعبي، ويتبادلها الشعبيون في إطار التعبير عن الرفض والاحتجاج والسخرية من الواقع كأسلوب للتخفيف من قسوته، وهو الأسلوب الذي عرف به المصريون، وقد توصل بحث أوروبي إلى أن المصريين أكثر دول العالم في "خفة الدم"، وقال البحث أن المصريون يستخدمون النكتة في التخفيف من واقعهم ومشكلاتهم.
ولكن الرفض المجتمعي لثقافة الشتيمة لم ينجح في تقويضها أو إلغائها، السبب في رأيي أننا تعاملنا مع الشتيمة كأسلوب خارج عن العرف، ينافي التحضر واللياقة، يؤذي الأسماع بما يتضمنه من بذاءة أو عبارات تحقيرية أو تشبيهات خارجة، ولم نتعرض لمرة واحدة للشخصية التي أفرزت لنا هذا السلوك.
وكأننا في الباطن لا نعترض على هذا السلوك، فقط مانعترض عليه هو أنه يشوه الصورة العامة للمجتمع، ويفسد ديكور المكان الذي يهمنه أن يكون شكله جميلا مرتبا، ولا يهمنا إن كانت تنخر في أثاثه السوس والحشرات أم لا؟.
الأمر الآخر أن الشتيمة العامية التي نستمع إليها في الشارع .. على المقهى أو في الباصات أو في طابور الخبز يوجد غالبا مترادفات لها في الفصحى، ونحن نستخدم هذه التعبيرات في لغتنا اليومية سواء أكانت محكية أم مكتوبة، حتى المثقفين يمارسون هذه الشتيمة الفصيحة في كتاباتهم دون أي غضاضة. ولكن المشكلة تكون دائما في لفظ مرادف الشتيمة العامى ولا أدري لماذا؟.
والناظر لتراثنا الأدبي سنكتشف أن أجزاء كبيرة منه تندرج تحت ثقافة الشتيمة، أشعار ونصوص قصصية وروايات وأدبيات اعتبرها البعض خارجة عن العرف والأخلاق، ولكنها ظلت رغم ذلك جزءا من تراثنا الأدبي .. نخجل منه نعم، ولكننا لا نستطيع اجتثاثه والتبرؤ منه.
ويجب أن نعترف أيضا أن ثقافة الشتيمة هذه وإن كانت خارجة على العرف الاجتماعي اتسمت في معظمها بالإبداع الثقافي، وقد ساعد هذا على رواجها وبقائها والإقبال عليها، خاصة وما اتسم منها بالإسقاط على الواقع السياسي والاقتصادي، ومن هذا الشاعر الراحل "ن س" الذي كان الشباب يتداولون سرا ديوانا له اعتمد على كلمة فاضحة ، ويمكن اعتباره نموذجا لثقافة الشتيمة التي تمارس الإسقاط السياسي.
النقطة الأخرى التي أود نقاشها أن الشتيمة في الإجمالي ليست مرفوضة أو مستهجنة، والمستهجن فقط هو استعمالها مع من لا يستحق، كوصف الشريف بالسارق أو وصف العالم بالجاهل وغيرها. أما وصف السارق الذي ثبتت عليه جريمته بأنه "سارق" ووصف القاتل والمحتل والفاسق والعاهر بما يقترفه فلا شيء في ذلك، فإذا قلت لشخص سارق .. "ياسارق" فلا يندرج الوصف تحت بند الشتيمة ، ولكن يندرج تحت بند الحقيقة المجردة.. ووصف الشخص بما عرف به وثبت عنه.
فعلى سبيل المثال إذا وصفت إسرائيل بالدولة المارقة العنصرية المجرمة المغتصبة، وإذا حاولت استخدام الاستعارة والقول بأنها حليفة الشيطان، فلا أعتقد أن في الأمر شتيمة، ولكنه رصد لواقع ثبت عن هذه الدولة التي تحتل فلسطين، وتقتل شعبها وتشرده وتقطع عنه أسباب الحياة. الأمر إذن يتوقف على مصداقية الشتيمة وليس في الشتيمة نفسها.
في العموم أنا أرفض الشتيمة التي تعني سب المرء بماليس فيه، والخوض في الأعراض، وما يدخل في دائرة التلاعن والتنابذ بالألقاب، التي نهى عنها الإسلام، ولكني مع الشتيمة إذا كانت وصفا صادقا لصفة اتسم بها شخص أو جهة. يتساوى في ذلك الشتيمة إن كانت بشكلها الشعبي الغريب المتجاوز، الذي يمارسه العامة، وشكلها التقليدي الفصيح الذي نمارسه نحن المثقفون.
وعلى وجه الخصوص أتمنى أن نعالج ظاهرة الشتيمة بمعالجة الشخصية التي أفرزت هذه الظاهرة، والتعامل مع جوهر المشكلة بدلا من شكلها، النقطة الأخرى هي إجازة الشتيمة إذا كانت وصفا لمن ثبت عليه فعل الشتيمة نفسه، ويكون ذلك على سبيل رجز المعتدي ونهره وترهيبه، تعبيرا عن رفض المجتمع للفعل القبيح الذي ارتكبه.