المصريون يهاجمون رئيسهم ويتظاهرون ضده، وينعتونه بأشد الأوصاف، وينتقدون بلدهم والسلبيات الموجودة بها، بالشعر والنثر والمسرح والدراما والنكتة والكاريكاتير، ولكن عندما يقوم غير مصري بسب رئيسهم أو بلدهم ، يأكلونه بأيديهم وأسنانهم.. أرجوكم افهموا ثقافة المصريين .. حتى لا تخسروهم..
يهتف المصري في المظاهرة بشدة ويحمر وجهه، لدرجة أنك تظن أنه سيغمى عليه، وهو يهتف "يسقط حسني مبارك"، وعندما يهتف شقيق عربي يقف بجواره على سبيل التآذر أو الحشرية، أو المشاركة الوجدانية هاتفا "يسقط حسني مبارك"، يتوقف المصري، وينظر إليه شذرا قائلا "إنت مالك".
ولكن الكثيرون لا يتفهمون هذه الثقافة الخاصة التي ظلت تحكم المصريين لسنوات طويلة، وهي ليست صفة متفردة لدى المصريين، حيث يشترك الكثيرون في ذلك، جريا على مقولة "بيدي لا بيد عمرو"، فالأب عندما يصيح في ابنه ويعنفه ويضربه علقة ساخنة، لا يقبل أن يتعدى أحد على طفله بكلمة حتى لو كسر زجاج الجيران بكرة طائشة.
شهدت ثورة مصر منذ بدايتها الكثير من التدخلات .. فبدت في بعض الأحيان ثورة "عربية" ضد مبارك، لقد انتهزت الكثير من الأطراف الفرصة لتصفي حسابها مع النظام المصري، والرئيس مبارك، وربما مع المصريين، فدخلت على الخط، وراحت تهتف بحماس "يسقط حسني مبارك"، فلقيت من المصريين نفس موقف الازدراء والنهر.. والعبارة العفوية الشهيرة "وأنت مالك".
حكام ونظم وقنوات فضائية وجماعات، انتهزوا ثورة الشعب المصري لتصفية الحسابات مع مصر أحيانا ومع النظام المصري أحيانا أخرى، ومع الرئيس مبارك من ناحية ثالثة، بعضهم يجد مصلحة خاصة في إسقاط النظام المصري، والبعض الآخر تضرر من سياسات الرئيس المصري والمحور الذي كان يقوده والذي سمى كثيرا بمحور الاعتدال.
البعض يرى في سقوط النظام المصري سقوط لجبهة داعمة لأمريكا وإسرائيل، وإحياء لأمل عودة مصر لمحاربة إسرائيل، وتحرير فلسطين التي فشل في تحريرها الجميع.
حتى إيران التي تقود المعارك الكلامية ضد إسرائيل، والتي مارست كل سبل القمع ضد مواطنيها، وأطلقت على المتظاهرين الرصاص الحي، وجدتها فرصة لتدعيم محورها البائس ضد أمريكا، واتضح ذلك في خطاب خامئني الذي مجد الثورة المصرية ، و"هاجم" قمع الشرطة للمتظاهرين، وادعى أن ثورة المصريين امتداد للثورة الإيرانية .
الكثيرون تعطفوا وتآذروا مع الشعب المصري، ومع مطالبه المشروعة في الحرية والديمقراطية، فكانت هتافاتهم إيمانا بمكانة مصر أم العرب، وكانت هتافاتهم على سبيل المشاركة الوجدانية، تماما كما تدخل سيدة على سيدات يبكين ويولولن على وفاة قريب، فتقوم السيدة بحركة لا إرادية بالبكاء والمشاركة الوجدانية، وتنفعل وتولول، وكأن الفقيد يقرب لها شخصيا.
البعض يعاني من نظم دكتاتورية كاتمة على أنفاسه، ولا يوجد أمامه مجال للتعبير أو الاحتجاج، فوجد في المشاركة في الثورة المصرية وسيلة للتعويض والتنفيس، وتجسيدا للمثل الذي يقول "الكلام إلك ياجارة"، وكأنه يرسل لنظامه رسالة مبطنه تقول : "للصبر حدود".
البعض تعامل مع الثورة المصرية كمن يتابع فيلم أكشن، فراح يلاكم الهواء ويصيح مستمتعا بالصراع ويقول : إضرب .. إديله"، وهؤلاء هم الذين ينطبق عليهم المثل "يريدون جنازة ليشبعوا فيها لطم".
بعض القنوات الفضائية تعاملت مع الثورة المصرية كسبق إعلامي يحقق للقناة مزيدا من نسب المشاهدة، لذلك حرصت على أسلوب الإثارة والتهييج، ومد أمد الأزمة إلى أطول مدى، لأن انتهاء الحدث ، سيعني انتهاء موسم المشاهدة والإعلانات، وكلما هدأ الأمر افتعلوا أخبارا تزيد الاشتعال.
بالأمس تعرض فريق قناة "الجزيرة" القطرية خلال تغطيته لتظاهرة لمجموعات من الشرطة في الأسكندرية للضرب من قبل مواطنين، وتمكن المذيع "العربي" من التملص من الخناقة بصعوبة، وهذا الموقف ربما يعطينا مؤشرا على ما نقوله، فالمصري يقبل أي شيء من مصري مثله، ولكنه لا يقبل نفس الأمر من الخارج.
في بعض الأحيان يفهم البعض ثقافة المصريين خطأ، قال الرئيس مبارك لمذيعة أمريكية أجرت حديثا تلفزيونيا خلال الأزمة، "الرئيس أوباما رجل طيب، ولكنه لا يفهم ثقافة المصريين"، ولا ادري ماذا كان يقصد الرئيس بـ "ثقافة المصريين"، باستقراء الأجواء المصاحبة لهذا الحديث يمكن أن نستشف ماكان يقصده الرئيس المصري، فقد قرر ترك الحكم، ولكنه يخشى أن يترك الحكم فورا خوفا من أن تغرق البلاد في الفوضى.
اعتقد الرئيس مبارك ـ هكذا أتصور ـ أن تنحيه يمكن أن يدفع المصريين إلى الفوضى، وهو اعتقاد ثبت خطأه، فعلى العكس بمجرد تنحي الرئيس قام المتظاهرون بتنظيف ميدان التحرير وشوارع القاهرة، وطلاء الأرصفة في مشهد جميل يؤكد عظمة هذا الشعب الذي يحب بلده، وأن ثورته تلك كانت تعبيرا وتجسيدا لهذا الحب.
وبغض النظر عن دوافع وأسباب الأشقاء الذين شاركوا في الثورة المصرية، وأيا كانت أهدافهم نبيلة أم غير ذلك، فإننا نعترف أن هذه المشاركة العربية والعالمية أعطت للثورة زخما لم تحصل ثورة عليه من قبل.
أتفهم "ثقافة المصريين" حتى لو اختلفت مع بعض جوانب هذه الثقافة، أتفهم أيضا ثقافات الشعوب الكثيرة والمتشابكة التي قد تثير جوانب منها الاستغراب والدهشة، ولكن مع تقديرنا لخصوصية المجتمعات، فإن من المهم أن نؤكد أن العالم أصبح شاشة صغيرة، وما يحدث في شرقه يؤثر في غربه، وإذا عطس شماله أصيب جنوبه بالزكام.
العالم يقترب ويتحد ويلتئم ، وقد ساهمت التقنية في هذا الاتحاد العظيم الذي يشبه اتحاد الكواكب الكبرى، يحدث ببطء، لكنه يحدث، لذلك كله سيأتي يوم لتصبح المشاجرة التي تحدث في بلد بعيد، تؤرقك وتمنعك من النوم، ويصبح الاعتداء على حق إنسان في القطب الشمالي كأنه اعتداء على قاطني القطب الجنوبي، وتصبح القضايا الإنسانية واحدة، وتغدو ثورة أي شعب ثورة يشارك بها الجميع.