وقع الرئيس المجري لاشلو سوليوم الأربعاء الماضي على تشريع جديد ينص على أن من ينكر أو يقلل من شأن الهولوكوست في المجر يواجه عقوبة قد تصل إلى السجن ثلاثة أعوام، وأوضح متحدث أن الرئيس لا يعتبر التشريع يتناقض مع الحق الدستوري في حرية التعبير، وبذلك يصبح عدد الدول التي تجرم إنكار الهولوكوست أو التقليل منها من قريب أو بعيد 14 دولة أوروبية.
وتتلخص حكاية الهولوكوست في أن إسرائيل تدعي قيام ألمانيا النازية بقتل 6 ملايين يهودي في عملية تصفية عرقية شاملة، خلال الحرب العالمية الثانية، وقد تم ذلك ـ كما يذكر ـ بطريقة مأساوية ، حيث خضع اليهود إلى الإعدام في معسكرات النازي، بالغاز ، وتم حرق الجثث في عملية تصفية واسعة ومنظمة، كما تم ـ حسب الادعاء ـ التنكيل باليهود، وتصفيتهم وإجراء التجارب الطبية عليهم، وتعرضوا لنهب الأعضاء.
ويقال أن النظام النازي فعل ذلك في ظل نظرية تعتقد بفكرة أطلقها الطبيب الألماني ألفريد بلويتز (1860 ـ1940) عن ما أسماه إمكانية تحسين النسل البشري عن طريق إحداث تغييرات اجتماعية بهدف خلق مجتمع أكثر ذكاء وإنتاجية لأجل الحد من ما أسماه "المعاناة الإنسانية"، ورخصت هذه النظرية القضاء على الأحياء الذين لايستحقون الحياة، والتعجيل بالقتل الرحيم للمصابين بالأمراض المستعصية .
وعملية الهولوكوست بررتها الفلسفة النازية ـ كما يقال ـ بكونها طريقة للتخلص ممن اعتبرتهم "تحت البشر" ، وأن الأمة الألمانية لكونها عرق نقي لها الحق في حكم العالم، وأن العرق الآري يفوق في جودته الأعراق الأوروبية، وأن بعض فصائل المجتمع حتى إذا كانوا من العرق الآري مثل الشاذين جنسيا والمجرمين والمعاقين جسميا أو عقليا والشيوعيون الليبراليون والمعارضون للنازية وشهود يهوه كانوا حسب الفكرة النازية من طبقة "تحت البشر".
وفي الوقت الذي روج فيه يهود العالم لمأساة "الهولوكوست"، وقدم البعض أدلة على وقوعها، أنكر بعض المفكرين والمؤرخين الواقعة، واعتبرها البعض أسطورة، وبين هذا وذاك رأى البعض أن رقم الستة ملايين ضحية رقم مبالغ فيه، وقدموا الأدلة على ذلك.
وبغض النظر عن صحة الواقعة وزيفها، فإن ترويج اليهود للواقعة والتأثير بها على العالم، لدرجة أن تسن 14 دولة قوانين لتجريم من ينكر أو يقلل من الهولوكوست نقطة جوهرية تستحق المناقشة.
مع تعاطفنا الإنساني مع أي شعب يتعرض للاضطهاد أو الإبادة ـ بغض النظر عن دينه أو عرقه ، وسواء صحت الواقعة أم لا .. فإنني أتعجب لتأثير هذه الواقعة الواضح والخطير على هذا العدد الغير قليل من الدول الأوروبية، وقد وصمت هذا التأثير بـ "الخطير" وأنا أعي ذلك، فلم يترجم الغرب "التأثير" إلى تعاطف أو تأييد أو حتى تنديد بهذه المأساة الإنسانية، ولكنه ترجم موقفه إلى قرارات لا يمكن تصديق صدورها في الغرب الذي يؤمن بحرية الرأي، ويدعي أنه يتنفس الحرية، ولا يمكنه التنازل عنها.
كيف تنازل الغرب على قيمه ، بل أهم قيمه بهذا البساطة، وأصدر قوانين تجهض هذا القيمة، كيف حطم الغرب أساسيات البحث العلمي والتاريخ وحرية الرأي بإصدار قوانين تجرم بل وتسجن كل من يدلي برأيه في واقعة تاريخية ، هي واقعة الهولوكوست أو المحرقة. ما الذي يدفع الغرب للتنازل بهذه السهولة عن أهم أساسياته، ويعرض مصداقيته في العالم وأمام شعوبه للخطر؟.
حرية الرأي والبحث والاجتهاد وتبادل المعلومات مكفولة بنص ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فكيف تخترق الدول الأوروبية التي تتشدق بحقوق الإنسان أهم بنوده وهي حرية الرأي؟ ، إذا أخذنا بمبدأ حرية الرأي بشيء من التبسيط سنقول أن كل الوقائع والموضوعات الإنسانية وحتى غير الإنسانية لكل فرد حرية إدلاء الرأي بها، ويتضمن ذلك الشخصيات والوقائع التاريخية والسياسية، والبحوث والدراسات والتجارب، حتى الأديان لم نستثنها من الاجتهاد والبحث. حيث أمرنا الله بالتفكر في الدين.
والهولوكوست صدقت أم كذبت واقعة تاريخية ، للجميع حق دراستها ومناقشتها والبحث فيها ، ولكن ماحدث أن الدول الغربية تجاوزت كل الأعراف الأخلاقية والإنسانية وميثاق الأمم المتحدة نفسه، ومقوم أصيل من مقومات هذه الدول، وأقرت قوانين تجرم وتسجن أصحاب الرأي. مع عدم تجاهل التناقض الرهيب الذي يمارسه الغرب، عندما أباح سب وإهانة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، بدعوى "حرية الرأي"، في الوقت الذي يمارس فيه "القمع" مع من أدلى برأيه في الهولوكوست.
ورغم أن هذه القوانين التي وضعها الغرب لتجريم إنكار أو التقليل من "الهولوكوست" صادمة وخارجة عن كل الأعراف، فإن هذا ماعهدنا من الغرب، فقد عهدنا منه التنازل عن قيمه بسهولة، بمجرد أن يكتشف أن هذه القيم ستتعارض مع مصالحه، ومن القضايا التي تنازل عنها عملية "نشر الديمقراطية" في العالم العربي والتي روج لها جورج بوش الإبن، عندما قاطع حماس عندما فازت في انتخابات ديمقراطية في فلسطين، وعندما رفع يده عن الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي بعد سنوات من الضغط والمطالبة بالديمقراطية ، وذلك بعدما حذرتها بعض هذه الأنظمة بأن الديمقراطية ستدفع الإسلاميين إلى الحكم.
نادت أمريكا طويلا بحقوق الإنسان في الوقت الذي كانت فيه تدير معسكر جوانتناموا، وتنتزع الاعترافات بالتعذيب، وتدير الرحلات السرية لنقل المعتقلين السياسيين من وراء الأنظمة الأوروبية. بشرت بالحرية فغزت العراق وشردت الملايين، وأعادت دولة عربية وإسلامية إلى مرحلة ماقبل التاريخ. إذن فتنازل الغرب عن قناعاته أمر وارد ومتكرر.
ولكن السؤال الآن .. لماذا دفع الغرب هذا الثمن الغالي من أجل اليهود. هل الأمر يرجع إلى تأثر كبير بمأساة إنسانية بالنظر إلى الدراما التي تنطوى عليها عملية إحراق الملايين في غرف الغاز. بيني وبينكم الأمر إذا صح سيكون مأساة إنسانية خطيرة ، فنحن كمسلمين لانرضى بوقوع هذه الإبادة الإنسانية حتى لأعدائنا، ولا يمكن أن يجادل أحد في ذلك، وهنا سنتعاطف بالتالي مع الغرب الذي كفكف دموعه حزنا على الضحايا اليهود، الذين راحوا بهذا الأسلوب البشع الذي تقشعر له الأبدان.
ولكن حدثت على مر التاريخ العديد من المذابح ، في فلسطين وكشمير ومذابح الأرمن وأفغانستان، ورواندا وتايلاند والعراق، وغيرها.. ناهيك عن المذابح التي ارتكبتها إسرائيل نفسها في فلسطين وغزة وصابرا وشاتبلا وبحر البقر، ولبنان، وقتل الأسرى المصريين، حتى الاستعمار الذي شهدته بعض الدول العربية يمكن إدراجه تحت بند جرائم الحرب والتصفية العرقية.
مذابح منظمة وعمليات تصفية عرقية منظمة تمت تحت نظر العالم بعضها كان بعلم المنظمات الدولية ومنها الأمم المتحدة، أي نعم المذابح التي شهدها العالم على مر تاريخه لم يصل ضحاياها إلى حد الستة ملايين المزعومة، ولكن الجريمة واحدة إذا تعرض لها شخص أو مجموعة أو حتى شعب.. فالقانون الدولي يعرف الجريمة وفق هذا المعنى.
حدثت هذه المجازر ولم يبادر الغرب بالتحرك، ولم يجرؤ على إصدار مثل هذه القوانين الخطيرة التي جرمت من ينكر الهولوكوست أو حتى يقلل منها..، حتى مذابح الأرمن التي تمت على يد العثمانيين وقيل أن ضحاياها بلغوا المليون شخص اكتفى الكونجرس الأمريكي ببيان يندد بها، واعترضت عليه تركيا وتبذل كل جهدها لإلغائه.
السبب في رأيي هو اللوبي الإسرائيلي الخطير الذي تسلل إلى الدول الأوروبية وتوغل، وسيطر على العديد من الهيئات والمؤسسات الرسمية والاعلامية بل حتى الأنظمة ، بشكل أصبح يروج لقضاياه، بل ويبتز ويتحكم في اتجاهات الكثير من الدول. وإا فلماذا تذكرت دولة مثل المجر فجأة قضية "الهولوكوست" بعد 68 عاما على وقوعها.
نجح اليهود على مدى أكثر من خمسين عاما في استغلال واقعة "الهولوكوست" سواء صدقت أم كذبت، أو بولغ بها ، وتمكنت من جعلها حية مستعرة على مر السنين، وكانت أحد المبررات لإنشاء دولة قومية لليهود التي أصبحت فيما بعد "إسرائيل".
بينما فشلنا نحن كعرب على مدى أكثر من خمسين عاما في تقديم "الهولوكوست الفلسطيني" للعالم، وإبقاء القضية الفلسطينية حية في أذهان الغرب، فشلنا في إبراز حجم الدمار والتشريد والبطش الذي تعرض له الشعب الفلسطينيين، لدرجة أن شرائح عديدة في المجتمعات الغربية مازالت تظن أن الفلسطينيين هم الإرهابيين، المعتدين، وأن إسرائيل حمامة سلام.
اكتفينا بالدعاء والخطب المنبرية وبيانات الشجب الصحفية، والقمم الطارئة الفاشلة، وتدبيج المراثي لضياع فلسطين، وهذا ما نجيد فعله عند الكوارث، وفشلنا إعلاميا واقتصاديا وسياسيا في الدفاع عن القضية، وكانت حرب أكتوبر 1973م التي انتصر فيها العرب على إسرائيل آخر نجاح سياسي وعسكري في اتجاه تحرير فلسطين، وكانت معهادتا السلام المصرية الإسرائيلية، والأردنية الإسرائيلية آخر خطوة سياسية لتحرير فلسطين، غطّت بعد ذلك الأمة في سبات عميق.
الدعاء وحده لايكفي ، والترويج بأن اليهود "وحشين" ليست الوسيلة المثلى لإقناع الآخر، والمطالبة بـ "تدمير" إسرائيل دعوى عنترية فات وقتها ستجلب لك تهمة الإرهاب الجاهزة.
الأمر يحتاج إلى حرب سياسية ودبلوماسية وعسكرية واقتصادية وإعلامية لتحرير الأرض. الأمر يحتاج إلى لوبي عربي مقابل في الغرب قادر على الدفاع عن قضايانا، فبينما يهتم العربي المهاجر إلى الغرب بأكل العيش وإكمال الدراسة، يفكر اليهودي في التوغل والسيطرة، وخدمة قضيته وعقيدته.
العرب يواجهون عدوا له مواصفات خاصة ، ليس ككل الأعداء، فاليهود سواء صحت واقعة "الهولوكوست" أو كذبت أو اتضح أنها حدثت ولكن بولغ بها، يعانون من عقدة نفسية حضارية خطيرة، لأن تصفية 6 ملايين يهودي ـ كما يعتقدون صدقا أم كذبا أم مبالغة ـ أفرز لنا شعبا مريضا يحمل عقدة الاضطهاد ، وقد أشعل ذلك الرغبة في الثأر ليس من الفلسطينيين فقط، ولكن من العالم، وربما يفسر ذلك أساليب الاحتلال والقمع والوحشية والتدمير ومصادرة الأراضى والمنازل وطمس الهوية التي تتعامل بها إسرائيل، ويفسر أيضا السلوك السياسي غير السوى الذي تتعامل به إسرائيل مع العالم، وكان آخره عملية اغتيال قيادي حماس المبحوح، حيث اعتدت إسرائيل على سيادة دولة عربية وعدة دول أوروبية وخططت وزورت ومولت جريمة دولية يعاقب عليها القانون الدولي بدم بارد ودون أن يهتز لها جفن، وقد يفسر الأسلوب المتخاذل والمهادن الذي تتعامل به الدول الأوروبية مع اسرائيل ، باعتبارها شخص مريض، تماما كما يتعامل الشخص مع شخص تعرض لمأساة.
القوانين التي وضعتها 14 دولة أوروبية والتي تجرم من ينكر أو يقلل من الهولوكوست، تأتي لاشك في صالح إسرائيل، ولكنه مسمار كبير في نعش الديمقراطية الغربية، وانهيار لعماد غربي رئيسي وقوى، سيكون له آثاره المستقبلية، لأن الشعوب الغربية التي رضعت الحرية وتنفست الحرية ورهنت مستقبلها بهذه الحرية، ليس من السهل عليها الانصياع لقانون مثل هذا يغتال الحرية ويستهزيء بالعقول ويسخر من حرية التفكير.
هذه القرارات ردة حضارية ، وخطوة عريضة واسعة إلى الخلف، وخطوة سياسية غبية تعمق الهوة بين الشعوب الغربية وحكامها من ناحية، وتعمق الهوة بين الشرق والغرب، من ناحية أخرى.
هذه القوانين رغم أنها في الظاهر في مصلحة إسرائيل، ستكون أيضا نصلا في ظهرها، لأنه ستأتي اللحظة التي تتمرد فيها الشعوب الغربية على الابتزاز الإسرائيلي، وسيضيق فيها الساسة بهذا الطفل المدلل الذي وصل شغبه إلى مرحلة "قلة الأدب".
ستأتي اللحظة التي يدرك فيها الغرب كم كان الوقوف وراء إسرائيل داميا ومكلفا، تطبيقا لقاعدة "لكل شيء نهاية"، وأن "الضغط يولد الانفجار"، والمثل الذي يقول "إذا جاءك الطوفان ضع ابنك تحت قدميك" سيتذكر الغرب فجأة كيف كانت إسرائيل السبب الأساسي في أحداث سبتمبر، والإرهاب العالمي الذي يمتد ليحرق القرى والبلاد، والذي وصل إلى المواطن الغربي الآمن في بيته، وعمله، سيدرك الغرب كيف بددت "الحرب الكاذبة على الإرهاب" ترليونات الدولارات التي دفع معظمها دافعو الضرائب، والتي أثرت على مستوى معيشة المواطن الغربي، وأفقدته آلاف المساكن و الوظائف، ستأتي اللحظة التي ستحرق النار التي تلعب بها إسرائيل أصابع الغرب وكراسيه. وعندها ستكون المواجهة بين إسرائيل والعالم.