إعلان فضائي يعرض على المشاهد أن يرسل اسمه في رسالة قصيرة SMS إلى رقم محدد، لتتحول رنة هاتفه إلى أغنية باسمه، .. نعم .. أغنية جاهزة اللحن والكلمات والأداء، على سبيل المثال هذه إحدى الرنات : "(أنور) يا حبيب الشلة.. والله بندعيلك والله.. يدِّيك على قد النية .. عروسة وعربية وفيلا"، ورنة أخرى تقول " أه يا (رنا) ياجمالك ياعيونك .. أنا باعشق رنة تليفونك.. وحشاني ياناس .. وغلبت خلاص"، ورنة ثالثة تقول "يا(مريم) ردي .. وقتي بيعدي وانتي وحشاني".
تعاطفت في بداية الأمر مع الشاعر الذي أفنى وقته في تدبيج قصيدة لكل اسم، وتصورت كم من الوقت قضاه هذا الشاعر.. الصنايعي في كتابة هذه الأغاني، وابتكار أغنية لكل اسم .. "سعدية" و"سنية" و"فتحية" ، وغيرهن، فلابد أن تكون الشركة المسوقة لهذا الأمر لديها رنات شعرية غنائية لكل الأسماء، لجمع أكبر كم من الأموال، حتى لو كان الاسم تقليديا يتعارض مع كل مقومات اللياقة والجمال.
تعاطفت وأنا أتصور الشاعر وهو يتقمص مع كل اسم التجربة الشعرية، .. يهرش رأسه، ويعصر تفكيره وكأنه في مهمة وطنية، لجلب معنى جميل أو قافية سليمة، تعاطفت ربما لأن هذه الصفقة من المؤكد أنها جلبت للشاعر قليلا من المال في عصر يعاني فيه الشعراء من الفقر والعوز، كما تعاطفت مع المطرب الشاب الذي لم يجد الدعم والمؤازرة ليمضي في طريقه الصحيح، ووجد في هذا العمل مصدرا لـلرزق، وباعتبار أن "أكل العيش صعب"..!
ولكني في النهاية تراجعت وتجهمت، بعد أن أدركت أن الأمر ـ مع كل الذرائع ـ سقوط ذريع للشعر، واستخدامه في عمل تجاري بحت، يمجد الأنا، ويخدع المشاعر، ويستجدي الغرور الإنساني، ويغذي وحش الذاتية الكامن داخل كل نفس. الأمر كما تصورته أشبه بالموسيقي المثقف الدارس الذي تدفعه الظروف للعزف وراء راقصة.
الغريب أن الإعلان كما يبدو من لهجته وكلمات الأغاني مصري الجنسية، إلا أن إحدى الشركات الخليجية قامت بخلجنة الفكرة، بعمل رنات لأسماء خليجية، وركزت على أسماء خليجية مثل "سلطان"، و"فهد" وفيصل"، مما يؤكد أن العملية مربحة.
أصبحت "تجارة التميّز" في حياتنا تحقق الملايين، وتعددت صورها لتشمل بيع أرقام الهاتف الجوال المميزة، وانتقلت إلى أرقام السيارات المميزة، وفي النهاية وصلت إلى رنات الهاتف الخاصة المميزة والمعدة خصيصا باسمك لحنا وأداء وكلمات، ومن مظاهر هذه التجارة انتشار ما يطلق عليه "خدمات الـ VIP"" والتي تخاطب هواة البحث عن وهم التميّز، وهي في الحقيقة تسويق للوهم ، وبيع للهواء في زجاجات، وهذه التجارة غير إيجابية، حيث أصبح الكثيرون يتسابقون عليها، ويدفع أحدهم ملايين الدولارات، ليحصل مزهوا ومتباهيا على كأس الصفيح للتميّز، ويعلق على رأسه ريشة المجد الوهمي.
تجارة التميّز تروج للفردية وتغذي الذاتية وتشجع الأنانية، وترسخ الطبقية بين الناس، وتقدم الشكل على حساب المضمون، والأخطر أنها تروج لمبدأ خاطئ، وهو أن التميّز بين الأصحاب والأقران يمكن شراؤه بالمال، وليس شرطا أن ينتج عن العمل والاجتهاد والكفاح، وهذا يؤثر ـ لاشك ـ سلبا في السلوك والشخصية.