لا أجد وصفا لتبادل السلطة الغريب الذي حدث بين بوتين وميدفيديف في روسيا سوى أنه "زنى سياسي"، فقد قام ديمتري ميدفيديف الرئيس الحالي بدور "المحلل" ليعود "فلاديمير بوتين" بشكل غير مشروع للرئاسة الروسية، و"المحلل" يلجأ إليه البعض في حياتنا الاجتماعية للتحايل على الشرع، فبعد أن يطلق الرجل زوجته ثلاثة مرات، تصبح محرمة عليها شرعا، إلا إذا تزوجت برجل آخر ثم طلقت.
الشرع يقول أن الزوجة محل الطلاق يجب أن تتزوج زواجا فعليا، ويدخل بها الرجل .. الزوج الجديد، ولكن ما يحدث في الواقع أن الزوج يبحث عن رجل .. أي رجل لكي يتزوج زوجته المطلقة على الأوراق مقابل "قرشين"، يعني "كده وكده"، ثم يطلقها بعد العدة "الشرعية" ليعود الزوج الحقيقي للزواج منها من الباب الخلفي.
الرئيس الروسي السابق بوتين لجأ عام 2008 إلى "المحلل" ميدفيديف بعد أن حان خروجه من منصب الرئاسة بموجب الدستور الروسي الذي يقضي بعدم وجوده رئيسا إلا لفترتين، وكأن البلاد ليس فيها شخصيات أخرى تستطيع المنافسة على هذا المنصب.
لجأ بوتين إلى شخص موثوق يمكن أن يقوم بدور الرئيس، لكن الجديد أن بوتن رفض أن يكون بعيدا، لقد قرر أن يكون قريبا جدا .. أين؟، في منصب رئيس الوزراء، بمعنى أوضح الرئيس السابق أصبح رئيسا للوزراء.
وطوال فترة حكم ميدفيديف حافظ بوتين على بريقه، فكان محلا للأخبار العالمية التي ترصد حركاته وسكناته، وتصوره وهو يمارس هواياته مثل صيد السمك، أو ممارسة المصارعة، ولا ندري السبب ..؟، هل كان ذلك كونه كان رئيسا سابقا تتبع وسائل الإعلام أخباره؟، أم أنه الحرج السياسي الذي جعل المرؤوس "ميدفيديف" رئيسا، وجعل الرئيس "بوتين" مرؤوسا؟. أم أن بوتين كان طوال هذه السنوات بالفعل الحاكم الحقيقي لروسيا، ولكن من خلف مقعد رئيس الوزراء؟.
استمر هذا الوضع الشاذ لسنوات، وبعد مرور الفترة الرئاسية لميدفيديف ، ومدتها أربعة سنوات . أراد الزوج المطلق أن يسترد زوجته .. المنصب الرئاسي، لذلك أعلن ميدفيديف أمس ـ في صفقة إعادة الزوجة أو الوديعة ـ رغبته في ترشح بوتين لمنصب الرئاسة هذا العام، وعزز ذلك إعلان بوتين نفسه رغبته في الترشح، ورغبته أيضا في إعادة ميدفيديف لمنصب رئيس الوزراء.
وهكذا تسير الخطة كما هو مرسوم لها، يخرج الزوج المحلل بهدوء من الصورة ليعود الزوج القديم للزواج من الزوجة التعيسة التي كتب لها أن تكون لعبة بين زوجين.
وإذا تم المخطط ، وواضح أنه سيتم سيدخل الإثنين بوتين وميدفيديف موسوعة جينيس كأول شخصين في العالم يشغلان منصبي رئيس الدولة، ورئيس مجلس الوزراء.
ما يعنينا في هذه المسرحية السياسية هو الديمقراطية، وكيف يمكن للبعض أن يعلن التزامه بالديمقراطية، ولكنه في الوقت نفسه يتحايل عليها، وهذا مؤشر خطير، بدأ يحدث ويتكرر، فما يحدث الآن في روسيا لم يكن الأول في العالم، حيث شهد العالم حالات مثيلة للقفز على الديمقراطية، والتحايل عليها، مرت دون أن يعلق أحد، وربما دون أن ينتبه أحد.
هذا الأمر وإن كان يحدث يوميا في النظم غير الديمقراطية، حيث يتم توريث الحكم للأبناء والزوجات والقصر، إذا كان ذلك متوقع من دول دكتاتورية مثل كوريا الشمالية أو كوبا التي يرث فيها الابن منصب أبيه، والأخ منصب أخيه، وإذا كان هذا حدث في ظل حكم استبدادي قمعي كالموجود في سوريا عندما ورّث حزب البعث الحكم بعد وفاة حافظ الأسد إلى ابنه بشار. فإن الأمر غريب في النظم الديمقراطية.
إذا كان ذلك يحدث في النظم الدكتاتورية، فإنه من الغريب أن يحدث هذا النظم الدستورية، ليس ذلك فقط ، ولكن الغريب أن يحدث ذلك في أشهر الديمقراطيات العالمية، كما حدث في أميركا عندما تقلد منصب الرئاسة جورج دبليو بوش الابن بعد سنوات من ترك والده جورج بوش الأب نفس المنصب، وحدث أيضا في عائلة كلينتون عندما حاولت هيلاري كلينتون تقلد المنصب بعد سنوات من خروج زوجها "بيل" من المنصب، وعندما لم تفلح في الانتخابات التي فاز بها الرئيس الحالي باراك أوباما، تم تسكينها في منصب لا يقل أهمية عن منصب الرئيس، وهو وزارة الخارجية.
حدث هذا أيضا في الأرجنتين عندما شغلت رئيسة الأرجنتين الحالية كرستينا إليزابيث فيرنانديز منصب الرئاسة بعد فترة رئاسية لزوجها الرئيس الأرجنتيني السابق نيستور كيرشنير.
لا تقل لي أن الأمر تم بموجب الديمقراطية، وأن الإبن من حقه أن يترشح لمنصب الرئاسة حتى لو كان يشغل المنصب في السابق أبوه . لا تحاول أن تقنعني أن الزوجة من حقها أن تترشح لمنصب الرئاسة في حالة خروج زوجها من المنصب ذاته. باعتبار الزوجة مواطن له نفس الحقوق ونفس الواجبات.
لا تحاول خداعي وتؤكد أن الأب لم يفرض ابنه فرضا على الحياة السياسية، ولا الابن حاول استغلال شهرة أبيه "الرئيس السابق" في الوصول إلى المنصب من جديد، ولا الزوجة استفادت من نفوذ زوجها الرئيس السابق لتجلس على كرسي الرئاسة؟، فهذا الأمر أقل ما يوصف به أنه "زنى سياسي"، تماما كما يختار الزوج الذي طلق زوجته ثلاث مرات لشخص ليقوم بدور "المحلل"، لكي يعود إلى زوجته من جديد.
هناك أنماط أخرى لديمقراطيات مثقوبة تتحايل على الشعوب، ونظم ترتدي قناع الديمقراطية بينما هي في الأساس تمارس الدكتاتورية في السر، والخوف .. كل الخوف أن تنتهي تجارب دول الربيع العربي إلى هذا المصير، وتصبح كالعراق، وتكون النتيجة دول عربية بديمقراطية شكلية جميلة، تنخر الدكتاتورية كالسوس في عروقها.
يجب أن تكون المسرحية السياسية الهزلية التي تحدث حاليا في روسيا جرس إنذار لكل المهتمين بقضية الديمقراطية، ويجب أن توضع الضوابط التي تمنع هذا التحايل الذي لا يقره دستور أو عرف، أو دين، أو منطق سياسي.