في العالم العربي فقط يوجد نص، ويوجد خارج النص، ومن يخرج عن النص المكتوب والمعتمد من المصنفات الفنية يقع تحت طائلة القانون، وفي حياتنا الكثير من النصوص التي تحدد وجهتك .. يمين .. شمال، وهي تشبه لعبة المتاهة التي تحدد لك الطريق الذي تمشي فيه، ليس ذلك فقط، ولكن أيضا تحدد طريقة المشي، مشيا أو ركضا أو زحفا، أو قرفصاء، أو حملا على نقالة، .. نصوص تبشرك بالوصول إلى شاطيء الأمان، بينما هي في الحقيقة تضمن لك الوصول بسرعة وسلام إلى الهاوية.
وإذا فكرت يوما في البحث عن طريق مختصر، أن تجرب اكتشاف دروب جديدة ستفكر ألف مرة، .. حتى لو لم تكن هناك رقابة، أو فوهات بنادق ومناظير ليلية تتابعك وتعد أنفاسك على الحدود ، هناك شريحة غريبة وضعت في أدمغتنا تجعلنا نسير في نفس الطريق، وإذا وزك الشيطان للخروج عن القطيع، أفرزت الشريحة الاجتماعية أنزيما يمنعك من المغامرة.
سبب آخر يمنعنا من المغامرة، وهو العادات والتقاليد ، فلدينا مئات الأمثلة الشعبية التي ترسخ وتبرر العجز وترفض المغامرة والخروج على ناموس القبيلة، منها "الذي تعرفه أفضل مما لا تعرفه" ، و"من خرج من داره قل مقداره". . العادات والتقاليد وحب الميري والتمرغ في ترابه، يجعل الجميع يسيرون ويتمسكون بخطى الأجداد.
الخوف أحد الأسباب المهة التي تدفع المواطن العربي للالتزام بالنص وحذافيره، ففي العالم العربي حيث الكثيرين محرومون من حقوقهم السياسية، ومن بينها حرية الرأي، لا تنتظر أن ترى جيلا يتمتع بالحرية والتجريب وروح الاكتشاف ، في العالم العربي فقط يسجن الشخص بسبب رأيه، حيث يوجد قطاع عريض من السجناء السياسيين وسجناء الرأي. وهو شيء غير موجود في العالم الأول الذي يعتبر حق الرأي تماثل حق الحياة.
وكانت النتيجة ظهور أجيال كثيرة من الشباب المقموع فكريا واجتماعيا، وبالتالي ظهور مجتمع عربي عام يحتفي بالقمع ويتآذر معه، ويرفض أي محاولات خارجية لانتقاده بدعوى أن لكل بلد خصوصيته وتقاليده.
المواطن العربي محروم من حقوقه الاجتماعية والسياسية، محروم من اختيار حكومته ورئيس دولته والتعبير عن رأيه السياسي، والسلطة تقوم بطحن وعجن المواطن المسكين، وإذا احتجت المنظمات الدولية التي تعني بحقوق الانسان وقالت "حرام .. عيب ياجماعة" تعلل الحاكم بأن لكل شعب خصوصيته ، وقال "شعبي وأنا حر فيه".
وتعبير "الخروج عن النص" تعبير فني في الأساس، حيث تلزم المسارح وجهات الانتاج التلفزيوني والسينمائي قبل قيامهم بتقديم أي عمل مسرحي أو تصوير أي عمل تلفزيوني أو سينمائي بتقديم نسخ للمصنفات الفنية "الرقابة" لإجازته، ويمكن للـ "المصنفات" الموافقة على النص أو رفضه ، أو المطالبة بحجز أجزاء منه قبل الموافقة، ويوجد مفتشون يمرون على المسارح ويتأكدون من تنفيذ ملاحظات الرقابة وعدم الخروج عن النص.
وكثيرا ما اصطدم المبدعون مع الرقابة، لأن فكر الرقيب دائما يختلف عن فكر المبدع، وكثيرا ما حدثت مواجهات بين الإثنين، وشد وجذب، ومواجهات قضائية، ويذكرنا ذلك بالفنان سعيد صالح الذي شتهر بالخروج عن النص، وتسبب ذلك في صدور أحكام ضده بالسجن، وقام بالفعل بدخول السجن بسبب ذلك، وأجمل خروج عن النص في رأيي خروج فيروز عن نص أغنية "سلملي عليه"، حيث قالت "عم بأغني المذهب .. لما أغني ردوا عليه .. عيدوا المذهب وزيدوا عليه .. وعيدوا الكوبليه".
ولا أدري هل هذ النظام متبع في الدول الأوروبية، أعتقد لا .. ، لأن هناك لا توجد رقابة على الإبداع أصلا، "المصنفات الفنية" اختراع عربي بامتياز ينفرد به العرب، كما ينفردون بميراث القمع الموروث الذي يحتفون به، ويرفضون أي تلميح بنقده واستهجانه.
ولا أدري ما الجدوى من نظام "المصنفات الفنية" هذا في عصر الانترنت والتطور التقني الهائل والفضاء المفتوح؟، يجب أن تحال "الرقابة" الحكومية للمعاش، وان تكون جزء من التاريخ.. تماما كالديناصورات التي انقرضت منذ ملايين السنين، وأصبحت تأخذ مكانها في المتاحف.
ولكن رعاة القمع يقفون ضد الزمن وضد التطور وضد النور، ويمارسون القمع الفكري والفني والسياسي، ومازال "الخروج عن النص" تهمة وسيف مسلط على رقاب الجميع.
"الخروج عن النص" في العالم العربي تهمة قد تدفع المتهم بها إلى السجن، أم في العالم الغربي فالخروج عن النص ظاهرة طبيعية تعلم المرء الابتكار والمشاركة والاستمتاع، ورغم أن ذلك يأخذ أحيانا صورا غير مقبولة اجتماعية إلا أن الق الايجابي لذلك ثلبت ومؤكد.
وإذا استطلعنا رأي علم النفس والاجتمع سنجد تأكيدا على أن منح الأبناء الحرية في التعبير والتجريب والاكتشاف هو الأسلوب التربوي السليم، أما قمع رأي الطفل فينتج شخصية مضطربة غير قادرة على الفعل، وفي الوقت الذي منح فيه الغرب الشباب الفرصة في الاستقلال والاعتماد على النفس، ويشجع الرياضات التي تعتمد على المغامرة مثل تسلق الجبال والرحلات الاستكشافية ولقفز بالمظلات. يقمع المواطن العربي أبنائه و"حريمه"، بدعوى العادات والتقاليد، ويغلق على أطفاله المنزل ويرفض أن يلعبوا حتى في الشارع بذريعة الخوف عليهم.
وفي الوقت الذي تمنح الكومات الغربية شعوبها الفرصة في الانتخاب وإبداء الرأي والاعتراض والاحتجاجات والمظاهرات السلمية، تحرم الحكومات لعربية مواطنها من الانتخاب وإبداء الرأي والخروج عن النص وتطارد الذين يتجرأوا بالتظاهر بالهراوات.
يجب أن نغير نصوص القانون، ونحول "الخروج عن النص" من كونة جريمة إلى ميزة اجتماعية وفضيلة ندعو لها الجميع، فالخروج عن الأسوار وحرية الحركة حق أساسي، وبند أساسي في قانون العالم الجديد، للعصافير حرية التحليق، وللانسان حرية الحركة والمغامرة وإبداء الرأي والتجريب والاكتشاف.