ماشهده العالم على صعيد التطور التقني في السنوات العشرين الأخيرة لم يحدث على مدى التاريخ، ففي عام 1989 اخترع الإنسان نظام عرض المحفوظات world wide web المعروف بالرمز www، والملقب بـ "الأنترنت" وأحدث هذا الاختراع انقلابا شاملا في حياة الإنسان . لقد غير الانترنت مفاهيم قديمة لم تتحرك منذ قرون. وجعل العالم الكبير "شاشة صغيرة جدا".
أنهى الأنترنت احتكار المعلومات في العالم العربي والتي كانت منحصرة في الإعلام الحكومي، وإذاعة لندن، وأطلق حرية الحصول على المعلومة، وقدم أنماطا جديدة لها مقروءة ومرئية ومتفاعلة، وأنهى رقابة الإنسان على الإنسان، وعزز رقابة "الضمير".
وكان من الطبيعي أن يستنفر ماحدث قطاعات عديدة لتغيير خططها وأساليب عملها لمواكبة الكائنات الفضائية الغريبة التي تتجول في شوارعنا وتحتل بيوتنا وغرف نومنا وتنظر لنا باندهاش، ولكن رغم التغيير ظلت الثقافة العربية كما هي. لم تتغير بنيتها التحتية منذ العصر الجاهلي.
ماذا فعلت مؤسساتنا الثقافية العربية لمواكبة هذا التطور الهائل، وتأهيل الأرشيف وعامل التوصيل، والحمام الزاجل إلى البث الفضائي والفيديو كونفرانس و"الثقافة عن بعد"؟. ماذا فعلت مؤسساتنا على صعيد المكتبات والمتاحف والتعليم والمعارض والثقافة الجماهيرية لمواكبة خميس التطور الزاحف الجرار..
كيف ستتعامل الثقافة مع التحديات القائمة التي نسفت مفهوم الثقافة التقليدي الذي حصر المعرفة ـ منذ أكثر من 2500 سنة ـ بين دفتي كتاب؟. كيف سنتعامل مع المعلومات الطائرة والتي تدخل مع الشهيق وتخترق الجلد، وإعلام مدبب جديد اسمه "المدونين"، وحركة شعبية اسمها "المنتديات" وزوجة ثانية اسمها "الصحافة الألكترونية"، ولغة الشات العجيبة، وجيل "تويتر" و"ماي سبيس" و"الفيس بوك" الذي وصل إلى 300 مليون.
علينا أن نعيد صياغة العمل الثقافي ووسائله، وإعداد خطط تتعامل مع واقع ثقافي تقني بحت، يجب أن نستحدث مفهوم "الثقافة الذكية" وتحويل تراثنا العربي الضخم إلى معلومات ألكترونية.. والعمل على "تبسيط الثقافة" بانتقاء مناهج للثقافة العامة، والثقافة المهنية، والثقافة المتخصصة. تشجع العامة على التزود بالمعرفة ، مع الاهتمام بثقافات أهملناها طويلا كالثقافة المسموعة والمحكية، وترويج"ثقافة الاختزال" التي تقدم المعلومة في كبسولات صغيرة مفيدة للجسم.
في رأيي يجب أن تكون وزارات الثقافة أشبه بوزارات الاتصالات. عبارة عن أبراج ألكترونية ورادارات ومدن ذكية وأجهزة استشعار وأطباق ضخمة للبث الفضائي. موظفوها في الأساس مهندسون في التقنية والطاقة. يرتدون الخوذات ويشبهون رواد الفضاء.
كل ما أخشاه أن تمر عشرون عاما أخرى، دون أن تتغير معطياتنا الثقافية العربية الحالية التي تصر على تمجيد الجمل، وتنظم مسابقات ملكة جمال النوق، فتفقد الثقافة بالتدريج مقومات وجودها، وتصبح مجرد تاريخ يأخذ مكانه الحتمي ـ محتفيا به ـ بين غبار المتاحف.
الثقافة يجب أن تتحرك وتنمو بالتوازي مع حركة ونمو المجتمع، وإن لم تفعل ستصبح جزيرة منعزلة لا تسكنها إلا الأشباح.