تصور معي لو أن شخصين متقابلين يجلسان على طاولة واحدة، الأول لا يتمسك بأدب الحوار، ولا يقدم دليلا واحدا على مايقول، والثاني يتمسك بمباديء الحوار ومن بينها الهدوء، والتأدب، والحكمة، وتقديم الحجة، والبيان.
يحتدم النقاش، فيتجاوز الأول، ويسب ويشتم، فيظل أخونا الثاني متمسكا بالمباديء، و"المهنية" في الحوار. يتمادى الأول في تجاوزاته، فيمسك عصا البيسبول، ويضرب بها رأس الثاني، فيكرر الثاني أنه يتمسك بأدب الحوار، فيعاود الأول ضربه مرة أخرى بعصا البسبول التي تستخدم أحيانا في القتل، فيرد الثاني مجددا بصعوبة ورأسه دامية من شدة الضرب، ويعلن تمسكه بأدب الحوار ومبادئه.
صورة عبثية هزلية مؤسفة تحدث كثيرا، عندما يتمسك طرف بالمباديء، بينما الطرف الآخر يدوس عليها، وليست المشكلة هنا ، لكن المشكلة الحقيقة تكمن في استمرار صاحب المباديء في التمسك بها، رغم تجاوز الطرف الآخر. ليس ذلك فقط ولكن المتجاوز يتعدى على صاحب المباديء حتى يحطم رأسه، ومع ذلك مازال صاحب المباديء بعبط غريب يتمسك بمبادئه.
التمسك بالمباديء في الوقت الذي يسخر الطرف الآخر من هذه المباديء ويخترقها ضرب من ضروب العبط والخبل والهوان، فالتمسك بالمباديء يجب أن يكون مشروطا بتمسك الآخر بها، وإذا تجاوز الآخر واخترق هذه المباديء يكون المرء في حل من التمسك بها. والموقف الطبيعي أنه إذا داس أحدهم على طرف لك، دس على طرفه، وإذا ضربك على رأسك، اضربه على رأسه.
عندما قذف الصحفي العراقي منتصر الزايدي الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن بحذائه، وقال له "هذه قبلة الوداع ياكلب .." انقسم الناس إلى فريقين، .. كثرة أيدت ما فعله الزايدي، مستندين في ذلك إلى الجرائم التي ارتكبها الاحتلال الأمريكي للعراق ، والتي تتعدد لتشمل الغزو غير الشرعي والقتل والتدمير والتعذيب في سجن أبو غريب، والتهجير حيث تسبب الاحتلال في تهجير أكثر من أربعة ملايين عراقي على الأقل، واغتصاب العراقيات، وتسجيل عمليات الاغتصاب بالصوت والصورة، واتخاذ ذلك وسيلة لإذلال العراقيين، وسرقة ثروات البلاد، حيث تداولت التقارير أرقام المليارات التي اختفت في عهد الحاكم الأمريكي للعراق بريمر، والمليارات الأخرى التي تبخرت في مشروع اعمار العراق الوهمي، إضافة إلى قتل رئيس الدولة بعد محاكمة هزلية ظالمة، تفتقر لأدني القواعد القانونية، وتنفيذ الإعدام ليلة العيد بطريقة تخالف كل الأعراف الإنسانية، وتحويل العراق إلى قبلة للإرهابيين، ووضع مستقبله في مهب الريح.
أما القلة التي عارضت ذلك، فكان سبب اعتراضها هو وجوب التمسك بالمهنية، ففي رأي هؤلاء أن"المهنية" في العمل الصحفي أو الإعلامي لا تقر هذا الفعل، وتتيح مقارنة الحجة بالحجة، وليس مقارنة الحجة بالحذاء.
بالطبع أنا لا أشجع التجاوز، وأدعو دائما إلى التمسك بالمهنية، وأرى أن العودة إلى "المهنية" هي سبيل الخلاص من كافة التجاوزات في الميدان الإعلامي، ولكن ما جدوى أن أتمسك أنا بالمهنية، بينما الآخر يخترقها، وهل من العدل أن أحاور بالأدب والمنطق والأدلة ، بينما يضربني الآخر على رأسي بعصا البيسبول حتى تصبح رأسى ملونة باللون الأحمر؟.
أعتقد أنه من الغباء والهوان أن أتمسك بالمهنية في هذا الموقف، فالمؤمن "كيس فطن" ، والمؤمن كما نص الحديث الشريف "لا يلدغ من جحر مرتين"، بالطبع أنا أتمسك بالقانون، وأدعو للاحتكام إليه في حالة التعرض للاعتداء ، وأرفض أمراضا اجتماعية كثيرة مثل نظرية الثأر التي تكثر في الصعيد، أو الجرائم المرتبطة بالشرف، بقتل الفتاة بدعوى الدفاع عن شرف العائلة، والحصول على حكم مخفف، ولكن هناك مواقف لا يمكن السكوت عليها، فعندما يغيب القانون نفسه، فلا مفر من مواجهة هذا الاعتداء بكل الصور، فإذا دخل لص إلى منزلك شاهرا سكينا، وأراد قتلك ماذا ستفعل، ستواجهه وتقوم بقتله قبل أن يقتلك. وسوف يسمى ذلك قانونا "دفاعا عن النفس".
من هنا فإن قذف منتصر الزايدي بوش الابن بالحذاء موقف وطني، لأنه موقف تجاه المحتل، فالمحتل واحد، سواء أكان هذا المحتل جنديا أو رئيس دولة، فغزو العراق تم بدون موافقة الأمم المتحدة وبدون مسوغ قانوني، بل أنه تم بناء على الغش والتدليس بادعاء أن العراق يمتلك معدات دمار شامل، وهذا ما لم يثبت أبدا، وهو "احتلال" باعتراف الهيئات الدولية، ومواجهة المحتل ومقاومته مشروعة بكافة السبل، سواء تم ذلك بالحجارة كما يحدث في فلسطين، أو بالبندقية والأسلحة كما فعلنا نحن تجاه الاحتلال الانجليزي، أو بالحذاء كما فعل الزايدي.
37 عاما مرت على حرب أكتوبر 1973 التي هزم فيها العرب إسرائيل، 37 عاما على وقف المقاومة العسكرية ضد إسرائيل، وانتهاج منهج التفاوض، 37 عاما والعرب يتمسكون بحبل المباديء المهتريء، بينما إسرائيل تخترق هذه المباديء ليل نهار، وتخرج للعالم لسانها، .. وتستمر في احتلال الأرض وقتل الفلسطينيين، وسجن الأسرى، وبناء الحواجز، وتزوير جوازات السفر، واغتيال المقاومين، وبناء المستوطنات، ومصادرة الأراضي. 37 عاما وإسرائيل تضرب رؤوسنا بعصا البيسبول وتضحك، وتضحك علينا العالم، ونحن نصّر على التمسك بالمباديء ندخل قاعات الاجتماعات برؤوس مدممة، ونخرج بنفس الرؤوس المدممة.
هناك مقولة شائعة كان طلبة الكليات العسكرية يرددونها ، وهي أنه "اذا رفعت الأيدي تساوت الرتب" بمعنى أنه إذا تجاوز من يعلوك في الرتبة العسكرية ، فإن الرتب العسكرية تتساوى، ويصبح من حقك أن تأخذ حقك بيديك"، وبغض النظر عن صحة هذه المقولة أو خطئها، فإنها تعطي لنا دلالة على فداحة تجاوز القواعد والمباديء ، وما يمكن أن تؤدي إليه من مواقف.
ندعو للمباديء ونتمسك بها، ولكن تمسكنا بالمبادي مشروط بتمسك الآخرين بها. اذا تمسك الخصم بالمباديء تمسكنا بها، وإذا اخترقها سنخترقها، و"العين بالعين، والسن بالسن، والبادي أظلم".