في الماضي كان المفتى يتهيب عندما يصدر الفتوى، يتأنى ويدرس جوانب الموضوع، ويلجأ إلى المراجع الفقهية، ويختم فتواه بعبارة "والله أعلم" ، وذلك لعظم الفتوى وقوة تأثيرها في المجتمع، وتجنبا للمقصود بالآية القرآنية الكريمة "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ، فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون".
الفتوى في حقيقة الأمر ليست رأيا خاصا، أو تحليلا شخصيا لأمر ديني، أو دردشة على المقهى، ولكنها إظهار للحكم الشرعي بالاستناد إلى الكتاب والسنة، ولو قام المفتى بتقديم فتوى خاطئة، فسيكون بذلك من ضمن من قال عنهم الله "يقولون على الله كذبا".
وعظم الفتوى يرجع ليس فقط أنها توضيح وتفسير ونقل لما قاله الله، ولكنها أيضا تكمن في أنها إذا جنحت تضلل الأمة، وتحيد بها عن طريق الصواب. فالفتوى دستور حياة، والناس يأخذون الفتوى ويطبقونها، في حياتهم، ولو كانت الفتوى خاطئة، سيحرف صحيح الدين، ويضل الناس، وتتخبط الأمة.
وفي السنوات الأخيرة وفي عصر الفضائيات المفتوحة، أصبحت الفتوى وسيلة لملء الفراغ الفضائي، وتسويق البرامج وأداة قتال في معترك الصراع السياسي، وظهرت لنا العديد من الفتاوى المضحكة ، من هذه الفتاوى، قتل الفأر الأمريكي ميكي ماوس، والفتوى التي تبيح للموظفة إرضاع زميلها في العمل منعا للخلوة المحرمة، وفتوى إباحة الرشوة، والتبرك بشرب بول الرسول، وتحريم عدم ارتداء الخوذة أثناء قيادة الدراجة النارية، وتحريم فرد الشعر، وبطلان زواج الزوجين إذا تعريا أثناء الممارسة، وتحريم اليوجا، وتحريم سجود اللاعبين عقب احراز هدف، وإباحة قتل ملاك القنوات الفضائية التي تقدم أشياء خارجة عن الإسلام، وإباحة قتل من يشجع على الاختلاط، وعدم الاعتداد بالطلاق إذا قيل بالعامية المصرية "أنت طاليء" وليس باللغة العربية الفصحى "أنت طالق"، وعدم جواز السفر إلى البلاد الأجنبية إلا للضرورة.
وفي عالم السياسة ومع احتدام الجدل السياسي وتفاقم المشكلة الفلسطينية، والانقسام الفلسطيني، وانقسام المحاور العربية من محور واحد منذ سنوات إلى عدة محاور إقليمية متنازعة، والانقسام الذي يشهده الوضع السياسي اللبناني، ذلك كله ساعد على لجوء البعض للفتوى لتأكيد فكرة سياسية ما.
ومن أمثلة الفتاوى السياسية فتوى شيخ الأزهر الراحل الدكتور سيد طنطاوي بعدم حرمة توريث الحكم إذا تم عبر الانتخابات، وعدم شرعية التظاهرات السلمية، وتحليل فوائد البنوك، وعدم إلزامية ارتداء النقاب، وفتوى الرئيس معمر القذافي التي أفتى فيها بأن سويسرا بلد كافرة، ومن الحرام السفر إليها، وذلك بعد الأزمة السياسية التي اندلعا بين ليبيا وسويسرا بسبب توقيف نجل القذافي، وبعد القرار السويسري بمنع بناء المآذن.
وكانت أشهر الفتاوى التي انطلقت في الفترة الأخيرة فتوى القطري الجنسية المصري الأصل الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي الذي أفتى بحرمة الجدار الذي تبنيه مصر على حدودها مع غزة، والتي تبعتها فتوى ثانية لمجمع البحوث الإسلامية تناقض الفتوى السابقة، حيث أصدر المجمع بيانا شدد فيه على أن تشييد الجدار لا يتعارض مع الشريعة، وبسرعة وحتى يكتمل المخطط أخذ المناهضون للدور المصري هذه الفتوى، وطيروها على المواقع في محاولة لتأجيج الرأي العام الإسلامي ضد مصر.
أصبحت الفتوى وسيلة للحسم السياسي، ففي الوقت الذي تغيب فيه الحجة والمنطق والشفافية في القرارات، تلجأ الدولة أو الجهة السياسية إلى الفتوى لتأكيد موقفها وإخراس الألسنة، وإنهاء الجولة بالقاضية، لأن الجميع يعرف ما للفتوى من قوة تأثير بسبب مرجعيتها الدينية.
وكلما ظهرت فتوى من هذه الفتاوى تتداولها وسائل الإعلام العربية، ويصبح الأمر أضحوكة، ووسيلة للتندر ، ولا يقتصر الأمر على وسائل الإعلام العربية، ولكن وسائل الإعلام الأجنبية أيضا تتناول مثل هذه الفتاوى المضحكة وتقول لقرائها .. أنظروا إلى المسلمين كم هم أغبيا، وتتداول بعض مواقع الأقباط أيضا مثل هذه الفتاوى وتقدمها كدليل على تخلف المسلمين.
ولاشك أن بروز هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة له أسباب معينة، السبب الأول استسهال الفتوى والجهل بحقيقتها وضوابطها، ورواج التحدث في الدين، وظهور دعاة جدد قد لا يحملون العلم الشرعي ليقدموا أحاديث وانطباعات عن الدين، هذا الأمر رغم جانبه الحسن، تسبب في عملية استسهال الحديث في الدين، وبالطبع الحديث عن عدم علم قد يتسبب في الصواب وقد يتسبب في الخطأ.
ومع ارتباط انتشار هذه الظاهرة مع ظاهرة انتشار الفضائيات ، فإننا من الممكن أن نقول أن الغرض الإعلامي موجود في هذه الظاهرة، فمع تعدد الفضائيات وكثرة ما يمكن أن نسميها "الفضائيات الإسلامية" ورغبة كل قناة في ملء الفراغ ببرامج وأحداث وموضوعات، والحرص على الترويج لبرامجها، أصبحت الفتوى تشبه الشو الإعلامي هدفها الترويج ولفت الانتباه، وقد ساهم عدم التدقيق في اختيار من يقدمون الفتوى في ظهور بعض هذه الفتاوى الغريبة.
وقد استغل صنايعية الفتاوى أن لكل أمر وجوه متعددة، ورحابة اللغة العربية والألفاظ التي لا تحمل في بعض الأحيان معنى واحدا، كما استغلوا في بعض الأحيان العاطفة العربية الجياشة التي تستجيب وتتحرك بسرعة حتى قبل النظر والفهم، فقدموا فتاوى ليس هدفها إظهار الرأي الشرعى بقدر ما تهدف اليه من التجييش والاستعداء والابتزاز ، كما حدث في فتوى تحريم الجدار الذي تبنيه مصر على حدودها مع غزة.
ولكن رغم عمق مشكلة الفتاوى مسبقة التركيب أو الفتاوى الجاهزة، أو الفتاوى مع توصيل الطلبات، وتأثيراتها السلبية، إلا أن الشيء الذي يخفف من الأمر هو وعي المسلم الذي يكشف الفتوى المزورة من أول وهلة، بمجرد تحكيم العقل والمنطق، لقد نسى صناع الفتاوى أننا عرفنا الله بالعقل، ولا يوجد أمر ديني يتنافى مع العقل، وكانت هذه الفتاوى بما تتضمنه من سطحية أحيانا وعدم منطقية أحيانا أخرى، والمزودة بجهاز توجيه في بعض الأحيان ، تفشل في التأثير في المتلقي، وإن كانت تثير في نفسه الضحك والسخرية.
ومع سعادتنا لوعي المسلم الذي يساعده على التفرقة بين الفتوى الشرعية الموثوقة المنطقية، من الفتوى المزورة، فإننا لا ننكر احتمالية تأثر عدد كبير من العوام والجهال بهذه الفتاوى المزورة، والوقوع في الفخ.
من المهم أن نعيد تعريف الفتوى، والعمل على إظهار الرأي الشرعي بها، ووضع ضوابط للخوض في الفتوى، والتوعية بالالتزام بالقواعد المنظمة لإصدار الفتوى وإعلانها، وهذه بالطبع مسؤولية إسلامية شاملة، ونأمل أن يتم ذلك سريعا قبل أن تتسبب هذه الفتاوى المزورة في إشعال الحروب والمعارك.