هناك قانون يقضي بأن من يستصلح أرضا فهي ملك له ، وذلك استلهاما للحديث الشريف الذي يقول "من أحيا أرضا ميتة فهي له"، ولكن هذا القانون رغم ظاهره الطيب كان بوابة كبيرة للصوص الأراضي ورجال الأعمال الفاسدين والمسؤولين ذوي الأيادي السوداء وفئة من البدو للاستيلاء على أراضي الدولة، وتقنينها بعد ذلك مقابل رسوم زهيدة، ثم بيعها بعد ذلك بالملايين ، بل بالمليارات.
لم يكن الأمر عملية استصلاح أرض خربة قاحلة لا زرع فيها ولا ماء، ولكنها كانت عملية نصب مقننة، ولكن بالقانون، وتحت سمع وبصر الدولة، ولجأ البعض لتخطى الرقابة الحكومية الهشة إلى زراعة جزئية أو شكلية لنباتات غير مجدية، حتى يفلتوا من الشرط الرسمي وهو استصلاح الأرض، وعندما فطنت الحكومة أخيرا ـ بعد خراب مالطة ـ إلى ذلك ، وفاحت ظاهرة سرقة المقننة لأراضي الدولة، بادرت الحكومة بمراجعة الأمر، وأعلنت نيتها في وقف هذا القانون، ووقف بيع أراضي الدولة عن طريق وضع اليد، واللجوء إلى ما أسمته حق الانتفاع. أما الهدف الأساسي النبيل من القرار، ومن قبله الحديث الشريف لم يتحقق أبدا.
هذا الموضوع وغيره يثبت لنا أنه كم من القرارات العظيمة التي تتفرغ من مضمونها وتفشل، ليس ذلك فقط، بل تكون أحيانا وسيلة للسرقة والنصب ونهب أموال الشعب، فقط لأنه من البداية لم يدرس القانون جيدا، وفي النهاية كان هناك دائما لصوص القوانين، وهم فئة قادرة على المراوغة وكشف الثغرات والسرقة بالقانون، ليقدموا للعام اختراعا جديدا مدهشا وهو "السرقة بالقانون".
ولو تمت دراسة هذا القانون في البداية، وسد الثغرات التي تفرغه من مضمونه، واتخنا الاشتراطات اللازمة التي تضمن المساواة والشفافية وصالح الإنسان البسيط، لما حدث هذا كله، ولكان هذا القانون وسيلة للبناء، وليس وسيلة للهدم.
الحكومات غير قادرة على الاستصلاح والتعمير ودفع مرتبات لائقة وتوفير الحياة الكريمة لكل أفراد الشعب، وقد منحت الفرصة لحكومة تلو الأخرى لإصلاح الأمر، كالتلميذ الخائب، ولكن الفشل كان القاسم المشترك بين الجميع، فلماذا لا نترك الشعب نفسه ينقذ بنفسه، ويحصل على قوته ويزرع أرضه ويبني منزله. الحكومات عاجزة عن توفير الماء للظمآن، فلماذا لا تتركه هو يبحث عن الماء قبل أن يموت من العطش.
أتذكر هنا الحديث الشريف الذي تناول رجلا دخل النار في قطة، والسبب أنه حبسها، فلم يطعمها، وفي نفس الوقت لم يتركها لتبحث عن رزقها. قال الرسول صلى الله عليه وسلم (دخلت امرأة النار بسبب هرة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا تركتها تأكل من حشاش الارض).
ومع الفرق الشاسع بين القطة والإنسان، ووصف القطة البائس، فإن الحكومات المصرية المتوالية فشلت في توفير المقومات الأساسية للحياة للمواطنين، ولكنها في الوقت نفسه حبستهم ، فلم توفر لهم قوتهم، ولم تتركهم يبحثون عنها في أرض الله الواسعة. ومع القياس نرى أن الحكومة ستدخل النار.
أتمنى تدارك الأمر بإطلاق حزمة من المشاريع التي تدور حول معنى ترك الشعب يبني نفسه ويزرع أرضه ، ويبحث عن قوته بيديه وأسنانه. من هذه المشاريه توزيع أراضي الدولة الصالحة للزراعة أو البناء على المواطنين بما يشبه نظام المنح المتبع في الدول الخليجية. على أن تشرف الدولة على تخطيط الأراضي وتوزيعها، ووضع القواعد المنظمة للبناء أو الزراعة، وتمنح قطعة الأرض للمواطن المستحق دون مقابل.
الحكومة منحت على مر السنوات الطويلة ملايين الأفدنة لمستثمرين مصريين وأجانب بتراب الفلوس كما يقولون، وحققوا من وراءها المليارات، في أكبر عملية إهدار للمال العام، ولعل أرض "مدينتي" أحد الأمثلة البسيطة على ذلك، حيث أصدر القضاء المصري قراره ببطلان بيع الأرض لمخالفته القوانين، وما شابهه من شبهات فساد. فلماذا لا تمنح الحكومة الأرض بنفس المنطق لشباب الخريجين والمواطنين.
والله لو سرق المواطن البسيط هذه الأرض ، وأثرى لكان ذلك أفضل من اللصوص الكبار الذين أثروا وأثروا ، بينما يزداد المواطن البسيط فقرا وضعفا.
تتميز مصر بمساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للبناء، وأخرى الصالحة للزراعة، ولكن الحكومة على استعداد لمنحها للصوص أو مستثمرين أذكياء عرب وأجانب ومتعددي الجنسيات، وفي الوقت نفسه ترفض منحها لصاحبها الأصلي المواطن المصري البسيط، وإحقاقا للحق شرعت الحكومة من سنوات في تنفيذ مشروع "ابني بيتك" ومنحت بعض الشباب الأراضي، ولكن كان ذلك بمقابل، وتقول المؤشرات الأولية للمشروع أنه يعاني من العديد من المشكلات.
نريد مشروعا قوميا لمنح أراضي الدولة إلى الشباب والمواطنين، بحيث يكون لكل مولود جديد قطعة أرض تستحق وتخصص من يوم ولادته، على أن تضع الدولة كافة الاشتراطات التي تمنع الفساد، وتضمن المساواة في التوزيع، مع تقديم الدعم الحكومي في مجال الاستشارات.
من المشاريع الأخرى التي يمكن إطلاقها في إطار المعنى الجديد الذي نرفعه وهو ترك الشعب يبحث عن قوته بيده وأسنانه، فتح باب الهجرة والعمل في الخارج ، وإطلاق مشروع قومي ثان لهذا الغرض. يشجع هجرة الشباب والعمالة الماهرة المدربة لكافة دول العالم المستقدمة للعمالة، من خلال اتفاقيات مع هذه الدول حتى ولو كانت بلاد الوا واق وبلاد تركب الأفيال.
المشروع الثالث الذي يمكن أن يندرج في إطار ترك الشعب يبحث عن قوته بيديه وأسنانه تقليل مدد التجنيد الإجباري، وترك الشباب سواء أكانوا من ذوى المؤهلات أو بدونها لخوض غمار البحث، للبحث عن فرصة عمل أو تأهيل أو دورات أو اكتساب لغة جديدة توفر لهم فرصا أفضل في سوق العمل.
الحكومة العاجزة عن توفير الحياة الكريمة لشعبها، والتي قررت ـ بشق الأنفس وإذعانا لقرار قضائي ـ زيادة الحد الأدنى للرواتب إلى 400 جنيه فقط، وهو راتب لا يكفي لإطعام القطط، يجب أن تعلن عجزها أولا، وتترك الشعب ـ كالقطط ـ ليبحث عن قوته بيديه وأسنانه.