قديما قالوا "لكل مقال مقام" ، وفي فقه اللغة الكلمة الواحدة قد يختلف مدلولها من وقت لآخر، كما يختلف مدلولها تبعا لطريقة نطقها، فمثلا إذا قلت لشخص "يافالح" . فأنت قد تعني المدح إذا قلت ذلك لشخص أدى عملا جيدا، وقد تعني الذم إذا قيلت لشخص قام بعمل سيء.
قال استيفان روستي في أحد أفلامه لصديقه "نشنت يافالح" عندما أطلق عليه الرصاص عن طريق الخطأ، وإذا تأملت هذا التعبير الطريف الذي أخذ شهرة كبيرة لما يتضمن من طرافة وخفة ظل، سنجد أن العبارة في ظاهرها عبارة مادحة، ولكن بالنظر إلى الموقف الذي قيلت فيه سنكتشف أن معناها تغير للنقيض، وأصبحت عبارة ناقدة وناقمة.
من ناحية أخرى فإن طريقة نطق الكلمة لها دور في تحديد المعنى، فمثلا لو قلت ـ بلكنة وادعة باسمة "لا ياشيخ"، فهذا يعني المداعبة والملاطفة، أما إذا قلتها بتجهم وبصوت جهوري عاتب فهذا يعني النهر والرجز.
لا نقصد بذلك التورية وهي اللفظ الذي يحتمل معنيين، ولكن أقصد اللفظ أو التعبير الواحد الذي يختلف مدلوله بتغير الموقف أو تبعا لطريقة نطقه.
قاعدة "لكل مقال مقام" والتي يمكن قلبها لتكون "لكل مقام مقال" ليست مجرد قاعدة لغوية، ولكنها أحد عناصر مايمكن أن نسميه "الإتيكيت الاجتماعي"، فهذه الإضاءة اللغوية يمكن إذا وعاها الإنسان أن تساعده على المزيد من الفهم لطرق التواصل مع الآخرين، وما لذلك من دور في تحسين العلاقات مع الآخرين.
عدم فهم هذه القاعدة يوقع المرء في دوامة من سوء الفهم، مما يفسد علاقته بالآخر، لأنه عندها سيقع في سوء التقدير ويتلفظ بألفاظ تثير حنق الآخرين وغضبهم، وعلى العكس فإن معرفة هذه القاعدة ومراعاتها في العلاقات الاجتماعية مقوم مهم من مقومات النجاح، فالإنسان الذي يختار جيدا ألفاظه ويختار الموقف الذي تقال فيه، وبالتالي يختار طريقة نطق اللفظ سيحظى بالقبول لدى الناس وسينجح في إيصال فكرته، أو توقيع صفقته أو الحصول على غرضه بشكل عام.
وكم من صديق يملك الحق في عتاب صديقه، ولكنه يعبر عن هذا العتاب بأسلوب سيء فيصبح هو أمام الصحاب مدانا، وكم من خلافات ونزاعات سياسية واجتماعية واقتصادية وكروية التي يملك فيها طرف ما الحق، ولكنه لا يستطيع التعبير عن موقفه، فيصبح هو المدان، وكثيرا من الناس يملكون الحجة والمنطق، ولكنهم في النهاية يخسرون قضيتهم، لأنهم لا يتمتعون بالقدرة على التواصل الصحيح مع الآخرين، وعلى العكس هناك من لا يملك الحجة ولا المنطق ولكنه يتقن "الاتيكيت الاجتماعي" فيربح المباراة من الجولة الأولى.
وفي عالم الحب تعتبر هذه القاعدة نصيحة ذهبية، فالعاشق الماهر القادر على الاستيلاء على قلب محبوبته هو الذي يعرف متى يقدم لحبيبته وردة، ومتى يعلق بالإطراء على تسريحة شعرها، أو جيبتها، والتوقيت المناسب الذي يطلب فيه يدها للزواج، وفي هذا الموضوع مظاهر طريفة جدا، فأحينا تجد شابا فقيرا معدما أصلعا لا يملك شيئا من حطام الحياة أو مقومات القبول أو الهندام، وقد أوقع في شباكه ملكة جمال الحي، بنت الحسب والنسب، والسبب تمتعه ـ ابن المحظوظة ـ بحلاوة الحديث، ومهارة الإقناع، فتضرب كفا على كف وتقول في سرك "أرزاق..".
وهذه القاعدة يمكن أن تفيد ليس على المستوى الاجتماعي فقط، ولكن يمكن أيضا أن تفيد على مستوى الأعمال والاقتصاد والتعليم والسياسة وكافة مناحي الحياة، ذلك لأن إيصال الفكرة ـ أي فكرة ـ والقدرة على الإقناع بها مفتاح النجاح في أي علاقة إنسانية.
والآية القرآنية تقول "إن من البيان لسحر" ، وفي ذلك دلالة على قوة حسن الكلام ومستوى التعبير وطلاوته والتي تصل إلى قوة الأشياء الخارقة كالسحر. وهذا يتفق مع التوجيه النبوي الذي دعانا الى الدعوة الى الله بـ "الحكمة والموعظة الحسنة"، وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم "لو كنت فظا غليظ القول لانفضوا من حولك"، وتوجيهه تعالى "وقدموا لأنفسكم" والتي يكفل علاقة الزوجية ناجحة.
وفي كل ذلك تأكيد على أن حسن الكلام وجمال التعبير والتقديم أهمية قصوى في عملية الاقناع. وتظل هذه الأهمية في كل المجالات ، بدءا من العمل التجاري العادي، وانتهاء بالأعظم وهو الدعوة الإسلامية.
من الأمثلة على ذلك إسرائيل التي لا تملك الحجة ولا المنطق ولا المشروعية في احتلال فلسطين، ولا تشريد أبنائها، والتنكيل بهم ليل نهار، ولكن بالدهاء والقدرة على اللعب بالأوراق والإتيكيت الاجتماعي استطاعت إقناع العالم بعكس الحقيقة وهي أنها دولة سلام وأنها هى البريئة الطاهرة المعتدى عليها، وأن الفلسطينيين مجرد إرهابيين عرب يريدون تدمير إسرائيل.
هذه قاعدة مؤلمة وظالمة، تزيد ضغط الدم، ولكنها للأسف الحقيقة التي تكون أحيانا حلوة وفي أحيان أخرى مرة، ومستفزة، تماما كالعاهرة التي تقنع الناس أنها عذراء، واللص الذي يرتاد المساجد ويشارك في الأنشطة الخيرية.
الربح والفوز والنصر معاني لا تستلزم في بعض الأحيان ـ للأسف الشديد ـ الحجة والمنطق، ولكن تحتاج إلى مهارات اجتماعية خاصة، فلا يكفي أن تملك الحق، ولكن المهم أيضا أن تتمتع بالقدرة على حماية هذا الحق والدفاع عنه، وإقناع الناس به. فالمحامى الذي يربح القضية ليس فقط من يملك الأدلة، ولكنه القادر على إقناع القاضي ببراءة موكله رغم كومة الأدلة التي يذخر بها ملف الدعوى.
الكياسة الاجتماعية موهبة لا يتمتع بها إلا الأذكياء الذين يعرفون مدلول الكلمة وتوقيتها ووقعها، وتأثيرها، يعرفون متى يقولون "نعم"، ومتى يقولون "لا"، لذلك فإن من الضروري أن تكون هذا الموضوع مقررا دراسيا في التعليم، وجانبا أساسيا في محاضرات التوعية الاجتماعية، وموضوعا رئيسيا في الإرشاد الزواجي، ومقوما أساسيا من مقومات الحياة.