تتميز الشخصية العربية بقوة العاطفة، وهذه العاطفة ليست عادية، ولكنها عاطفة مشبوبة مؤججة، كجذوة النار، تتحكم في الكثير من سلوكياته، هذه العاطفة النبيلة هي التي أنتجت لنا أعذب الشعر وأجمله، وقدمت للانسانية دررا من الأدب الرفيع، وهي عاطفة تجعل العربي جزءا من كل، عضوا في جسد، قطعة موزايكو في لوحة جميلة كبيرة من الفسيفساء، ثمرة من ثمار شجرة وارفة ممتدة جذرها ضارب في أعماق الأرض.
وهذه العاطفة هي السبب في الروابط المتينة التي تربط الأب بأبنائه، والجد بأحفاده، والأم بوليدها، والأسرة بالأقارب، والعائلة بالمجتمع، إنها روابط هلامية لا ترى بالعين المجردة، ولكنها متينة كالسلاسل، من الصعب أن تنفصل.
والعاطفة هي الفرق الوحيد بين الانسان والإلة، فالإنسان يشعر ويتأثر ويحس، بينما الآلة مهما كان تفوقها في أداء المهمات، مجرد آلة من صفيح وبيلاستيك ومسامير، إنه نفس الفرق بين الوردة الطبيعية والوردة الاصطناعية، كلاهما جميل الشكل، ولكن الطبيعية وردة تفوح بالشذا والنبض والجمال ، بينما الاصطناعية تسخر منك بجمال زائف. وكلما تراجعت العاطفة داخل الانسان، كلما كان الانسان أقرب إلى الجماد.
هذه العاطفة التي يتميز بها العربي قد تكون في الظاهر نقطة ضعف، لأنها تتعارض مع قوة الشكيمة، والقدرة على التحمل ورباطة الجأش، ولكنها رغم ذلك كانت دائما "قوة الضعف" التي تضيف للإنسان قوة من نوع خاص، هي قوة الرحمة والعطف والإحساس والإيثار والشهامة والنبالة.
تتجسد هذه الروابط في معاني منها الأمومة، والأبوية والأخوية والعائلة والعزوة، والقرابة، وغيرها..، وهذه الروابط التي تربط كافة أفراد الأسرة أحد مقومات قيم العائلة، وهي مجموعة من القيم الفريدة والتي يتكون منها المخزون القيمي للفرد، وقد تأسست لعدد من الروافد كالغريزة والعقيدة والثقافة والعادات والموروث الحضاري.
العربي يتميز بقيم العائلة التي تجعل الأب مسؤولا عن أبنائه، حتى بعد أن يكبروا ويعملوا وينجبوا البنات والصبيان، حيث تستمر هذه الرعاية الأبوية إلى نهاية العمر، وتمتد هذه الرعاية للأحفاد، .. بل وتمتد كاللبلاب إلى خارج نطاق العائلة، لتصل إلى الجيران والأقارب، وأبناء المنطقة، بل وأبناء المدينة، أو البلد الواحد.
هناك قدسية دائمة يحملها العربي للمعارف والأقارب وأبناء القبيلة، حتى "أبناء الحتة" يندرجون تحت هذه القدسية، وتمتد إليهم هذه الروابط، لقد قدس العربي منذ القدم مفهوم الحسب والنسب والقبيلة والعائلة، وجعلها من مصادر الفخر والقوة.
تعززت هذه الروابط العاطفية والإنسانية في الشخصية العربية في الأساس نتيجة للبعد الديني، فالإسلام يؤكد على هذه الروابط ويؤكدها ويعمقها، ويؤكد على أهمية الوحدة والتجمع، ويحذر من الفرقة والشتات، .. يقول تعالى في كتابه الكريم "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم"، ويقول الحديث الشريف (لا تنازعوا فتفشلوا فتذهب ريحكم"، ويؤكد الحديث الشريف على قيمة الجماعة ، (عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومَن شذ شذ في النار).
شدد الإسلام على قيمة العائلة، وأهميتها في المجتمع المسلم، وحض على احترام الصغير للكبير، ورحمة الكبير للصغير، يقول الحديث الشريف "ليس منا يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا"، كما حضّ على احترام الأبناء لوالديهم والحفاظ على مشاعرهم، وتوقيرهم، والرحمة بهم، ورعايتهم في الشيخوخة، يقول تعالى في القرآن الكريم (وقضى ربكَ أَلا تَعبدوا إِلا إِياه، وَبِالْوَالدين إِحساناً، إِما يبلغنَّ عِندْك الكِبر أَحدهمَا أَوْ كلاهمَا ، فَلا تَقلْ لَهما أفٍّ ولا تَنْهَرْهُمَا، وَقُلْ لَهُمَا قوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرحْمة، وقل رَبِّ ارحمهمَا كما ربياني صَغِيراً).
وهذا الرابط العاطفي المتين الذي لا نجده في الغرب، حيث ينفصل الابن عن الأسرة بمجرد بلوغه سن الشباب، فيذهب ليقطن مدينة أخرى، ويعمل ويعول نفسه، ويشق حياته بشكل منفصل، لينفصم أو قل ليضعف الرابط الذي يربطه بالعائلة، وتوهن بذلك أواصر العائلة.
في الغرب تطغى الفردية، والنزعة إلى الاستقلالية، كل يعمل لوحده، ويكبر لوحده، وكل ينفق من ماله، وتختفي الثقافة الجماعية، ولعل أحد الأدلة على ذلك أنك إذا ذهبت مع بعض الأصدقاء الغربيين لتناول الطعام في مطعم ، ستفاجأ أن كل صديق يدفع لنفسه، ولا يوجد حكاية "العزومة" و"الكرم الحاتمي" ، أو أن يبادر شخص بدفع قيمة الطعام لزملائه، لذلك كان المجتمع الغربي من أكثر المجتمعات الإنسانية هشاشة، فعندما تطغى ثقافة الفرد، يضعف الجسد، وتقل مناعة المجتمع.
بعد آخر مهم، وهو أن الغربي لا يتحمس في كثير من الأحيان للزواج والإنجاب، لقد كانت العائلة من خلال تصور الكثيرين أحد القيود الاجتماعية، والكثيرون يرفضون هذه القيود، فتتراجع بالتالي ثقافة العائلة، وتبرز بدلا منها ثقافة "البوي فريند"، وتتراجع بالتالي معدلات الزيادة السكانية في الغرب بشكل مخيف.
أدرك الإسلام قيمة العائلة كوحدة أساسية ومركزية في بناء المجتمع المسلم، إذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع، فشجع على الزواج والإنجاب، "يا أيها الذين آمنوا من استطاع منكم الباءة فليتزوج"، وقال (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).
وعززت الثقافة الشعبية هذه القيم، وفي الموروث العديد من الأمثلة والشواهد والمنتجات الثقافية، التي تؤكد أهمية الرباط العائلي، يقول المثل "الضنا غالي"، في إشارة إلى غلو مكانة الأبناء في حياة الآباء، وليس ذلك فقط، ولكن امتد هذا الغلو إلى الحفيد ، يقول المثل "أعز من الولد .. ولد الولد". ويقول أمير الشعراء أحمد شوقي "متى جار شيخٌ على طفلهِ؟"، وهو تساؤل يؤكد استحالة أن يجور أو يظلم أب ولده"، .. لقد كانت الرحمة والعطف والمحبة والإيثار والعطاء كلها عناوين أساسية في علاقة الآباء والأبناء، وعلاقة الأجداد بالأحفاد. وهذا كله عزز من قوة وتماسك العائلة في المجتمع المسلم.
قيم العائلة قيم انسانية فريدة التي يتميز بها العربي، ولا نراها بهذا الوضوح والجلاء في الشعوب الأخرى، ورغم الغبار الذي عتَّم الكثير من علاقاتنا الاجتماعية، فإن هذه القيم مازالت صامدة ظاهرة جلية، وهي قيم يجب أن نتمسك بها ونحافظ عليها كالشمعة التي نحيطها بأيدينا خوفا عليها من الهواء، لأنها القيمة التي ستمنح المسلمين المزيد من القوة والانتشار والسيطرة في العالم.
في الوقت الذي تتراجع قيم العائلة في الغرب، لتصيب المجتمع بالضعف والشتات والتفكك، تتعزز هذه القيم في المجتمع المسلم لتزيده قوة وتماسكا ومنعة وتوسعا وانتشارا.