كًتًبتْ قائلة "لماذا الدين؟" ، وبقدر ما صدمني السؤال ، فقد أسعدتني المواجهة التي وفرها لي سؤال ينتظر الإجابة، وعلامة استفهام تنتظر اليقين، سعدت لأن السؤال وفر لي فرصة لمناقشة أمور يعتبر البعض الحديث عنها من المحرمات، ويظنها البعض من الأسرار الإلهية، أو "من الأشياء التي إن تبد لكم تسؤكم" كما ذكر القرآن الكريم.
لماذا الدين؟
سؤال صادم، ولكنه مشروع، لأن المسلم عرف الله بالعقل، وأن العنصر الأساسي في الإيمان هو الاقتناع، وقد دعانا الله تعالى للتفكر والتدبر في خلقه، وأباح لنا الاجتهاد لتجديد الفكر الديني، حتى يكون الإسلام دائما مواكبا للمجتمع ومستجداته التي تتغير كل يوم بل كل ثانية.
لماذا الدين؟
سؤال جارح، يجرح المسلم الذي يعتقد أن الدين شيء مسلم به، كما يجرح المتدين الذي يأسف لطرح هذا السؤال بعد 14 قرنا من ظهور الإسلام ، سؤال يجب أن لا يثير القلق، وأن لا نتحسس من الإجابة عليه، خاصة في هذا الزمن الذي اختلطت فيه العديد من الأمور، وأصبح عقل الإنسان المسلم مكشوفا أمام طوفان من المعلومات، عبر الانترنت، والفضاء المفتوح الحافل بالجيد والرديء.
في هذا الوقت، حريٌ بنا أكثر أن نسلح أبنائنا بالمعرفة الصحيحة، وأن نقدم لهم كل الإجابات، ونروي شغفهم الطبيعي والفطري لمعرفة كل ما يعن لهم من أسئلة حول الخلق والميلاد، والدين، والروح، والموت، والبعث، والحساب، والجنة، والنار، وغيرها من الموضوعات، والأسئلة المحرجة أحيانا ، والشائكة أحيانا أخرى.
لماذا الدين؟
صدمني السؤال ربما لأن صاحبته شابه جميلة في مقتبل العمر، عربية، مسلمة، وهو الجيل الذي نعول عليه نهضة الأمة، وتقدمها،، وربما لأننا تعودنا على صورة العربي المتدين، سواء اعتنق الإسلام أم المسيحية، وسواء أكان المسلم سنيا أم شيعيا، أم إسماعيليا، أم إثنى عشريا، وسواء أكان المسيحي أرثوزوكسيا أم من البروتستانت.
عُرف عن العربي التدين، وقلما وجد في العالم العربي ملحدين، أو لادينيين. كما نجد في الغرب، حيث يوجد كثيرون تضم بطاقاتهم عبارة No Religion ولا يجد المجتمع هناك غرابة في ذلك، والعالم العربي متدين بطبعه، ويرجع ذلك إلى عوامل اجتماعية وثقافية ضاربة في التاريخ، وعندما نصادف شخصا عربيا لا يعترف بالدين، فإن ذلك يكون بمثابة العنصر الشاذ، بل البالغ في الشذوذ.
ربما يتلفظ البعض بألفاظ غير لائقة، يوحي ظاهرها بأنها تعبر عن رفض للدين، أو السخرية به، أو الإهانة له، كسب الدين الذي يحدث في بعض الطبقات الشعبية، ولكن إذا تأملت الواقع، ستجد أن الدين عند هؤلاء الشعبيين وغيرهم، المحرك الأساسي للشخصية، حتى لدى غير الملتزمين دينيا.
لماذا الدين؟
سؤال مشروع لابد أن نجيب عليه، ليس ذلك فقط، ولكن يجب أن يعرف إجابته الجميع، باختلاف ثقافاتهم ومستوياتهم الاجتماعية، وانتماءاتهم والمذهبية، وأن نوفر إجابة نموذجية تتمكن من تقديمها الأم العاملة، وربة البيت، والأب المثقف، ومتوسط التعليم، وغير المتعلم، خصوصا مع بروز ظاهرة اللادينيين الوافدة في المجتمع العربي.
أخبرتني معلمة من دولة عربية أن هناك ثلاثة تلاميذ ممن تدرس لهم في إحدى مدارس اللغات من أبناء الأجانب العاملين في البلد مسجل في أوراقهم الدراسية أمام خانة الديانة No Religion ، وهذا يشير إلى أن حالة اللادينيين موجودة في العالم العربي، بعضها وافد، وبعضها مقيم، ونسبة الطلاب الثلاثة لدى معلمة واحدة تشير إلى احتمالية أن يكون حجم الحالة أكبر مما نتصور، هذا عدا الملايين من المسلمين الذين لا يربطهم بالدين سوى تعريف "مسلم" في بطاقة الهوية، وهذا يحتم علينا الانتباه لوجود هذه الظاهرة، والاستعداد ليس لمواجهتها، ولكن للتعامل معها.
لماذا الدين؟
أبديت للسائلة تحفظي، فأجابت أنها "علمانية"، وقبل أن أعلق عقبت وفي نبرتها شيء من الضيق "أرفض أن يقيمني الناس على أساس ديني" صيغة السؤال، التي تشير إلى رغبة كامنة في المعرفة، ولدت لي انطباعا بأن الحالة ليست حالة إنكار تام لوجود الدين، أو كفر بالخالق، ولكن شعرت أن التساؤل نابع عن روح إنسانية قلقة، فجاء السؤال تعبيرا عن التمرد، ورفض الوصاية، حتى لو كانت الوصاية الدينية.
إذا كانت العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة، فإن الدين الحقيقي لا يتعارض مع ذلك المفهوم، لقد أكد الإسلام على حرية العقيدة، قال تعالى "لكم دينكم ولي دين"، ، وقال "لا إكراه في الدين"، وقد كفل لأتباع الديانات الأخرى حرية العقيدة، ودعا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وهي ثوابت يجهلها الكثيرون.
الإسلام الحقيقي لا يصطدم بالعلمانية إذا كانت تعني حرية المعتقد، وأن يمارس كل أصحاب عقيدة عقائدهم بحرية، لأن العقيدة لله والوطن للجميع، سواء أكان هذا الجميع مسلمون أم مسيحيون أم يهود، وهذا الواقع تؤكده طبيعة المجتمع المسلم الذي لا ينعزل ويتقوقع على أساس ديني، ولكن يتفاعل مع الديانات الأخرى، ويتعامل مع أبنائها، ويكفل لهم ممارسة شعائرهم، وفقا لقاعدة "ولكم دينكم ولي دين"، ويعلي من قيمة المواطنة التي ينخرط تحت لوائها الجميع.
لذلك فالحل في رأيي هو "العلمانية الدينية"، التي تحترم الدين، وفي الوقت نفسه تحترم الإطار المدني الذي اتفق عليه أبناء الوطن الواحد بكافة دياناتهم ومذاهبهم، وارتضوا به حكما بينهم.
أما عن مسألة التقييم، فمن البديهي أن الإنسان لا يقيّم على أساس دينه، لأن الدين علاقة بين العبد وربه، وتقييم الشخص يجب أن يتم بناء على شخصه، وثقافته، وأخلاقه، وأداءه في العمل. لأن المجتمع إذا أقر الدين كمعيار للتقييم، سينعزل كل أصحاب دين عن المجتمع، وتكفر كل فئة الأخرى، ويحتدم الصراع، وهذا يتنافى مع رسالة الأديان، والتي تهدف في مضمونها العام إلى سعادة الفرد والمجتمع.
لماذا الدين؟
سؤال إجابته سهلة، لا تحتاج إلى عالم دين، أو أستاذ في الشريعة، أو مفتي، لأن إجابته تستلزم فقط إعمال العقل، الذي تميز به الإنسان على سائر المخلوقات، العقل هو الأداة التي يقيس بها الإنسان كل ما حوله في حياته اليومية، فهو الذي يمنعك من أن تدني أصابعك لنيران شمعة، حتى لا تحترق، وهو نفسه العقل الذي يمنعك من القفز من أعلى جبل حتى لا تهلك. العقل الذي يشترك فيه الجميع، العالم والجاهل، الرجل والمرأة، الديني واللاديني.
حتى لا تراوغ، سنتفق في البداية على المعيار الذي سنستخدمه ونحتكم إليه، وهو العقل، لن نحتكم للشعوذة أو التنجيم أو التهيؤات، فإذا استخدم الانسان عقله، ونظر حوله وأمعن التفكير، في الشمس التي تشرق، والنجوم التي تسطع، والورود التي تتفتح، إذا تأمل فقط يده، نظر إلى أصابعه، بسط كفه ثم قبضها، ونظر إلى جسده المعجز عينيه؟، شفتيه، قدميه، إذا تأمل ثنائية الموت والميلاد، سيكتشف بسهولة أن هذا الكون معجز، وأنه لابد أن يكون لهذا الكون خالق، وأن هذا الخالق ليس خالقا عاديا، ولكنه خالق معجز، وأن هناك سبب لهذا الخلق. كل أداء في حياتنا المعاصرة يتحقق، يشير بمجرد تحققه إلى فعل والى فاعل، لا توجد أشياء هكذا تظهر فجأة، هناك دائما لكل فعل فاعل.
إذا رأيت لوحة جميلة في معرض تشكيلي، وأعجبت بها، ستسأل بالطبع عن الفنان الذي رسمها، فلاشك أن هناك شخص رسمها، فلا يعقل أن اللوحة ولدت هكذا كالسحر، أو عفريت من الجن رسمها، وعندما تمتدح اللوحة، ستمدح الرسام ، وسوف يكون مدحك للرسام بقدر إبداعه في اللوحة.
فما بالك بهذا الكون المعجز البديع، وهذا الجسد الإنساني المعجز، وهذه المعجزات التي تتحقق كل لحظة في الموت والميلاد والشروق والغروب، والمطر، والزراعة والمناخ والظواهر الطبيعية، وغيرها.. والتي نعتبرها من تكرارها اليومي عادية، كل ذلك يدل على وجود خالق معجز مبدع خلاق، خلق الحياة والإنسان لحكمة بليغة، وهدف معين.
أما الدين فهو النظام الإلهي الذي أراده الله لخلقه، والذي يكفل لهذه الحياة الاستمرار والنمو، ويكفل للناس السعادة في الدنيا والآخرة. سنضرب مثلا دنيويا مبسطا إذا أسس شخص ما شركة، سيضع لاشك النظام الإداري الذي ينظم العمل ومراحله، بدءا من ساعات الدوام والحضور والانصراف، ومرورا بالأقسام ومهامها، وكيفية التعامل مع المشكلات، وانتهاء بالإنتاج والتسويق، وذلك حتى يحقق المشروع النجاح.
ومع الفارق الهائل بين البشر والخالق جل وعلا، فإن الله تعالى خلق الناس، وجعل لهم الدين قانونا عاما لهم، وجعل القرآن الكريم دستورا إلهيا يجمع تعاليمه ووصاياه، وأرسل لهم الرسل ليقدموا للناس هذا الدستور الإلهي، ويفسرونه للناس.
أما الادعاء الذي روجه البعض بأن هذا الكون قد نشأ من ملايين السنين نتيجة لتفاعلات طبيعية، أو أن الحياة بأحداثها وشخوصها ماهي إلا لعبة افتراضية كما رمى أحد أفلام هوليوود، وتجاوز البعض وقولهم أن الدين أفيون الشعوب، فإن هذا محض تخاريف، وهذه هي المراوغة بعينها، إنها تخريجات مضحكة لا تصدر إلا عن مجنون، غاب عنه العقل، وإذا غاب العقل فقل كما تشاء.
قال تعالى "ربنا ما خلقت هذا باطلا، سبحانك فقنا عذاب النار" صدق الله العظيم.