خلق الله الناس سواسية، لا فرق بين عربي أو عجمي، أو أبيض وأسود، ولا بين وزير وخفير، ولا عامل أو صاحب العمل، لا ذكر أو أنثى، فالناس في المجتمع الإسلامي متساوون كأسنان المشط.
ولكن التمييز كان منذ الأبد جناية الإنسان على أخيه الإنسان، فمنذ الأزل وهناك نزعة بشرية للتمييز بين البشر، هناك دائما رغبة في الاستعلاء، فهذا يود أن يكون أعلى من هذا، وذاك يتوق داخل نفسه ليكون الأعلى هو الآخر، الرغبة في التمييز كانت دائمة آفة اجتماعية لصيقة بالبشر منذ بدء الخليقة.
وقد شهدت العصور الإنسانية تكريسا متتابعا لمبدأ التمييز بين البشر، فهناك دائما سادة وعبيد، أغنياء وفقراء، أهل حظوة وسلطة وعلو شأن ومقام، وهم غالبا من الحكام والوزراء والتجار وأهل المناصب، ويطلق عليهم البعض أهل الحل والربط، وهناك في المقابل العامة المحكومين البسطاء من الموظفين والحرفيين والعمال الذين يجاهدون للحصول على قوت يومهم.
ظلت الطبقية معيارا أساسيا في المجتمع العربي لفترة طويلة، فكان هناك دائما القبيلي والصعلوك، وقد كان الفخر بالقبيلة أحد مظاهر هذه الطبقية التي آمنت بها العرب، وترجمته بالشعر والنثر والسلوك الاجتماعي، حتى جاء الإسلام فساوى بين السادة والعبيد، وأقر قواعد جديدة للمجتمع ترفض التمييز بين الناس، وتجعل العدل أساسا للملك.
ورغم أن الإسلام حرم التمييز بين البشر، ظلت الطبقية موجودة في المجتمع المسلم، أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وظل التمييز بين الناس أحد الأدران الاجتماعية اللصيقة بالشخصية العربية، حتى الآن.
فمازال المجتمع العربي حتى الآن يمارس التمييز بين الرجل والمرأة، والحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والزوج والزوجة، المواطن والأجنبي، .. التمييز مرض اجتماعي قديم مازال يسكن الجسد العربي مسلحا بالتقاليد والعادات، ومتسلحا أيضا للأسف بالدين، بعد أن فسر البعض الدين على هواهم، رغم أن الدين الصحيح نبذ الطبقية والتمييز والظلم منذ أن بزغ نوره على الجزيرة العربية. ولكن من الإنصاف أن نقول أن الطبقية كانت دائما تتناسب عكسيا مع العدل، فكلما ارتفع مؤشر العدل في المجتمع، كلما تراجعت الطبقية والعكس صحيح، حيث كانت الطبقية دائما تتفشى مع انتشار الدكتاتورية والتسلط والفساد السياسي والاجتماعي. والتمييز بمفهومه البسيط هو حصول أي فئة من المجتمع على مزايا خاصة لا تحصل عليها الفئات الأخرى، وهو أمر ظالم مستهجن، مهما كان المبرر، فالناس سواسية، وهم أمام القانون سواء، ولا يجب أن نميز فئة عن أخرى تمييزا إيجابيا بسبب الوظيفة أو الدين أو العرق. كما لا يجب أن تتعرض أي فئة للتمييز السلبي لنفس الأسباب.
وفي العصر الحديث تنبهت المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان بقضية التمييز بين البشر، وأصدرت القوانين والمعاهدات التي تكافحه وتجرمه. ولكن رغم ذلك لم تنجح القوانين والمعاهدات كما لم تنجح الأديان السماوية من قبل في كبح جماح التمييز في العالم العربي.
وليس شرطا أن يكون التمييز في أمور كبيرة، كالتمييز الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين أصحاب الأرض، أو التمييز الذي كان في جنوب أفريقيا في ظل سياسات الفصل العنصري، أو التمييز الذي عانى منه السود في أمريكا قبل تحرير العبيد، فهناك مظاهر عديدة في المجتمع تعتبر من قبيل التمييز، ربما لا يدركها البعض.
من ذلك مثلا تخصيص صالات لكبار الزوار بالمطارات لعلية القوم، وأخرى للمسافرين العاديين، ومن ذلك أيضا تقسيم درجات السفر إلى درجات مختلفة تحظى بعضها بخدمات أرقى من الأخريات، أيضا من التمييز في القطارات وجود درجات للسفر، فهذه درجة ثالثة رديئة المستوى، وهذه درجة أخرى عالية المستوى ومكيفة الهواء.
كذلك التمييز في العلاج، فهناك علاج شعبي وعلاج فندقي، كما وصل التمييز للتعليم، فهناك التعليم الحكومي، والتعليم الخاص الذي تسدد نفقاته بالدولار، والمؤسف أن التمييز وصل إلى الحج، حيث تنظم بعض الشركات حملات للحج السياحي توفر الخدمات الترفيهية ومتابعة أخبار البورصة للحجاج الميسورين مقابل نفقات طائلة.
من التمييز أيضا ما تتبعه بعض المطارات عندما تخصص بوابات لدخول الدبلوماسيين وأخرى لمواطني الدولة نفسها، وثالثة للمسافرين العاديين. من التمييز كذلك حصول فئات وظيفية في المجتمع بميزات وأفضليات معينة كالضباط والدبلوماسيين والقضاة والصحفيين وغيرهم. كذلك يندرج تحت ذلك قصر بعض الوظائف في الدولة على فئات معينة، كما يحدث أحيانا عند القبول في كليات أو تقلد وظائف معينة.
والتمييز قد يكون في المعاملة والأجور والقوانين وساعات العمل والنظام الانتخابي، والتوظيف والمناصب القيادية، وقد يكون في أشياء بسيطة جدا كطوابير الخبز ومواقف السيارات.
وقد اخترع الإنسان المعاصر لتقنين التمييز وتبريره وترويجه مصطلحات معينة كالواسطة، والتي يتم من خلالها تمرير العديد من الوظائف والصفقات والمزايا إلى أشخاص معينين دون غيرهم، لسبب أن بعض النافذين أو المعارف قد توسطوا لهم. وفي المقابل حرمان آخرين يستحقون هذه الوظائف والمناقصات.
وتظهر في هذا الباب وسائل عدة للغش والتحايل على القوانين التي تنظم قبول الوظائف وإرساء المناقصات أو العطاءات، وذلك باتباع القواعد الشكلية للقانون بالإعلان عن الوظائف أو المناقصات لتحقيق مبدأ الشفافية والتساوي في الفرص، ولكن في النهاية يتم ـ تحت المنضدة ـ اختيار المحظوظ.
التمييز جناية نرتكبها يوميا مع الأهل والأقارب، والجيران والمراجعين والموظفين، .. سلوك قميء يتنافى مع فطرة الإسلام السوية، والعجيب أننا في نفس الوقت الذي نمارس فيه التمييز على مدار الساعة، نتشدق ـ كالعادة ـ على المنابر برفضه ومكافحته والتحذير من عواقبه.
تاريخ الإضافة: 2014-04-17تعليق: 0عدد المشاهدات :1262