يترقب المصريون خلال الأيام المقبلة إصدار المجلس الأعلى للقوات المسلحة إعلانا دستوريا يرسم فيه خارطة المستقبل، خارطة مرسومة بالدم والعرق والثورة والتحدي، يحدد الإعلان خطوات تكوين الدولة، والمراحل الخاصة بذلك، وتوقيتات كل مرحلة، ومنها الانتخابات البرلمانية والرئاسية، .. وأهم هذه الخطوات تشكيل لجنا عليا لإعداد دستور جديد للبلاد .
ورغم أهمية الدستور كمنطلق سيحدد التوجهات السياسية العامة للدولة. إلا أن هناك إعلان آخر مهم يجب أن نتفق عليه ونعلنه، وهو الإعلان الاجتماعي، وهو الإعلان الذي سيعني بتأسيس قاعدة اجتماعية عامة يعمل من خلالها المصريون. تكون ضمانة لأي إعلانات أخرى قادمة .. ومن بينها الإعلان الدستوري.
مصر مقبلة على مرحلة جديدة من الحرية والديمقراطية. ورغم رفضي لمزاعم البعض من أركان النظام السابق، وبعض الأصوات في الخارج والداخل التي تزعم أننا غير جديرين بالديمقراطية، فإننا يجب أن نعترف أننا مازلنا نخطو الخطوات الأولى للديمقراطية. ليس فقط الديمقراطية المصرية. ولكن أيضا الديمقراطية العربية التي لم تعرف دول عربية مثيلا لها على مر التاريخ.
وبغض النظر عن دوافع المشككين، نبيلة أم غير نبيلة . نابعها الخوف والحب والرغبة في إنجاح التجربة المصرية، أم خوفا وهلعا من نجاح التجربة المصرية، والتي سيعد نجاحها إيذانا بزحف التجربة إلى بلدان أخرى عربية دكتاتورية تخشى أن تنتزعها شعوبا نزعا كما فعل الشعب المصري في أيام، فإن الهواجس كثيرة، والشامتين جاهزون لممارسة مهمتهم الكبرى التي لا يجيدون غيرها وهي الشماتة.
فالطفل يتعلم الكلام بالمحاكاة ثم يبدأ في الحبو ، ثم المشي. وفي البداية يمشي ثم يسقط، ويحاول مرة ثم مرة .. حتى يمشى ثم يركض. مصر أيضا في تجربتها الديمقراطية الأولى ستمشي وتسقط، وتحاول مرة أخرى حتى تستوي وتتقن المشي والركض في المستقبل القريب.
والناظر للساحة السياسية الآن سيكتشف أنه بعد رفع القيود التي كانت موضوعة على التيارات السياسية المختلفة، والقيود الموضوعة على تكوين الأحزاب، انطلقت في الساحة العديد من الاتجاهات والحركات السياسية، وشرع الكثيرون في تكوين أحزاب جديدة.
وإذا كانت تونس التي لا يتجاوز عدد السكان بها 11 ملايين نسمة قد اعتمدت حتى الآن 45 حزبا، فإن مصر التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 84 مليون من المنتظر أن يصل عدد الأحزاب التي ستعمل بها 100 حزبا يعمل على الساحة، إضافة على اتجاهات كثيرة متشابكة كالإخوان والسلفيين والوسطيين وغيرهم ..، سيتقدم للترشح لمنصب الرئاسة حوالي 25 شخصا متعددي البرامج والاتجاهات، .. النقابات أيضا بعد تعديل قانون النقابات سوف يمارس أعضاءها العمل السياسي، .. الجامعات التي حرم فيها العمل السياسي سيمارس طلابها وطالباتها لأول مرة العمل السياسي، وسيكون لهم الحق في مناقشة كافة قضايا الوطن دون خوف أو وجل. حتى القتلة والخارجين عن القانون ـ ومنهم قاتل السادات ـ أصبح بعد خروجه من السجن يتحدث وينظر ويقول أنه يفكر في الترشح للرئاسة.
بالطبع هناك إيجابية كبيرة لذلك التعدد، لأن ممارسة السياسة في النور أفضل من ممارستها في الظلام، وتعدد الآراء سيوفر أرضية سليمة للنهضة والتقدم، ولكن كل ما نخشاه أن تضيع في خضم الحوارات والجدل والتنافس الحزبي الثوابت الأساسية، فنحيد عن الهدف.
ولكن ما أخشاه أن يفرز الحماس وحداثة التجربة والكبت السياسي الذي عانى منه المصريون أكثر من 40 عاما حالة من الصراع، فيكثر التخوين ويتهم كل طرف الطرف المقابل .. ، ويضيع الهدف الرئيسي للديمقراطية وهو المشاركة وتعدد الآراء، واحترام الرأي الآخر.. كل ما أخشاه أن ينجح متآمر هنا أو متآمر هناك من إحداث الوقيعة بين عنصرين من عناصر الأمة كالمسلم والمسيحي . كما حدث في إطفيح.
كل ما أخشاه أن يأخذنا الحماس الزائد إلى الانفعال والخطأ . فتتحول الديمقراطية إلى مصارعة الساعد كل طرف يحاول أن يغلب أخيه دون هدف. كل ما أخشاه أن ينجح الانتهازيون والمنافقون والطابور الخامس في إلهائنا في معارك جانبية عن المهمة العظيمة وهي الحرية.
من هنا تبرز ضرورة اتفاق الأمة على الخطوط الاجتماعية العريضة للوطن، والتي تكون منهجا نسترشد به كلما شطحت الأفكار واحتدم السجال، ويمكن الاصطلاح على هذه القواعد بالإعلان الاجتماعي، يصدر هذا الإعلان نتيجة لحوار وطني شامل تشارك به كل القوى السياسية.
هذا الإعلان الاجتماعي سيتضمن الأسس التي تقوم عليها أي دولة حرة تتمتع بكل مقومات الدولة الحديثة المتقدمة، ومنها العدالة الاجتماعية .. ومدنية الدولة .. المساواة .. التعددية السياسية .. حرية العبادة والمعتقد .. عدم الانحياز .. الوسطية والاعتدال .. المشاركة السياسية .. الخطاب المعتدل . أدب الخلاف .. تكافؤ الفرص .. القيم الإنسانية .. وغيرها ..
سيتفق الشعب بجميع طوائفه على إعلان اجتماعي حقيقي يحدد الثوابت التي سيتمسك بها الوطن والخطوط العريضة لأمة مصرية جديدة قادمة، سيكون هذا الإعلان أشبه بدستور اجتماعي تعمل من خلاله الأمة.. ويكون منهجا وسلوكا للجميع في المرحلة المقبلة.
وجود هذا الاتفاق الاجتماعي سيكون خير ضمانة لنجاح الدستور السياسي .. وسيحمي البلاد من الشطط والجدل والسجالات واللعبة السياسية التي قد ينجرف فيها البعض .. فيحيدوا عن جادة الصواب.
سيكون هذا الإعلان أيضا ضمانة للجميع بأن لا أحد سيحيد عن الطريق.. ، عندها ستهدأ هواجس المسلمين وهواجس الأقباط، وسيهدأ حماس السلفيين..، وسينتهي خوف الليبراليين، ويموت الحساد والشامتين من الغيظ، لنتفرغ جميعا لمهمة أساسية وهي العمل والإنتاج.