تمر الأيام والعصور ، ويموت الناس وتبقى سيرهم، إما كالعطر يسكن المكان أو كرائحة كريهة تزكم الأنوف، طيب الذكر عندما يأتي اسمه في مجلس تتعالي الأصوات "الله يحسن إليه"، أما سيء الذكر فإذا ورد اسمه يجمع الناس في صوت واحد "أعوذ بالله"، وعلى مر الأزمان دخل التاريخ قلة من الأشخاص، مازلنا نتذكرهم، رغم مئات السنين التي مرت على رحيلهم. نستلهم كلماتهم العظيمة التي ألهمت الشعوب، وأفكارهم التي صنعت الأمم. نقرأ عن أمجادهم في الكتب، وندرس سيرهم في الفصول المدرسية.
وهؤلاء الذين دخلوا التاريخ لا يزيدون عنا بقدم أو يد، فهم أناس عاديون، شربوا من نفس النهر، ولوحت وجوههم نفس الشمس، صنعوا أمجادهم بأيديهم بدون واسطة أو رافعة شوكية حملتهم إلى أعلى.
والتاريخ لا يكذب، لا يمكن رشوته بالمال ليغمض عينيه ويدعك تمر، ولا يمكن أن تخدعه بكلام معسول لكي يتجاوز عن أخطائك، لا يعترف بالتسويق والعلاقات العامة، التاريخ آلة الزمن الرهيبة التي لا تجامل ولا تتجنى، تسجل بميزان حساس المزايا والخصال والجرائم والحروب.
كل من دخلوا التاريخ لم يخطر ببالهم في أي وقت تحقيق هذا الشرف، لم يحلموا بالنياشين والأوسمة، بل أن بعضهم كان فقيرا لايجد قوت يومه، عاش حياته البسيطة عازفا عن الأضواء.
ولكن بعد أن تحول كل شيء إلى تجارة، ظهر سماسرة يدعون أنهم وكلاء لـ "التاريخ"، وأنهم قادرون على إيصالك بسيارة خاصة إلى المجد، فقط ببضعة دولارات تصبح المخترع والمكتشف والرائد والوجيه ورجل البر والإحسان والنابغة وعظيم الشأن، فيركض خلفهم الجهلاء، ولكن بعد فترة يكتشفون أنهم يركضون خلف السراب.
التاريخ ليس بعيدا، إنه هناك في متناول يدك، ولكن دخوله لا يتم إلا عن طريق باب واحد، هو باب العمل والصدق وخدمة المجتمع.