لماذا يظل الموظف العربي في مهنة واحدة عشرين عاما، يذهب يوميا إلى نفس المكان، ويستخدم نفس وسيلة المواصلات، ويشاهد نفس المحلات، ويقابل نفس الأشخاص، يصعد على نفس السلالم، ويؤدي عمل واحد بوتيرة واحدة لا تتغير.
لا نعترض على مبدأ الوفاء الذي يجعل الناس يتمسكون بالجهات التي يعملون بها حتى الموت، ولا نعترض على إيمان المرء بالقدرية والقسمة والنصيب، وبالمثل الشعبي الذي يقول "اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش".
لا نعترض على خوف العربي الفطري على مستقبله، ومحاولته الدائمة لـ "تأمين مستقبله" بوظيفة تدر دخلا ثابتا تمكنه من "فتح" بيت، ويتجاهل بذلك أن الموت ـ أمد الله في عمره ـ يأتي فجأة.
العربي يقضى جل عمره في "محاولة" تأمين مستقبله، ولكنه لا يعيش أبدا هذا المستقبل، لقد نسى في خضم ركضه المحموم وراء لقمة العيش أهم عنصر في هذه العملية وهو "نفسه".
المواطن العربي إنسان قدري غير طموح، يركن كل شيء للقدر والسحر والشعوذة، لا ينظر إلا تحت قدميه، ويؤمن بمقولة "عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة". لذلك يتشبث بوظيفة متواضعة في يده حتى الرمق الأخير.. يرضى ببئر فقيرة ناضبة أمامه، دون أن يكلف نفسه عناء السير بضع خطوات حيث النهر الكبير.
نتفهم ميزة "الرضا" وهي توجيه ديني، وهو يعني بأن يرضى الإنسان برزقه، ولكن لا يعنى "الرضا بالمكتوب" الكسل والعجز وافتقاد لأمر إلهي مهم آخر، وهو "السعي".
"القناعة كنز لا يفنى" تعبير مأثور يؤمن به الكثيرون، وهذا شيء لا نعترض عليه، ولكن "القناعة" لا تعني أن أجلس في منزلي، ولا أخرج ساعيا للجد والعمل والرزق الوفير.
الكثير من الناس يموتون ، وتضيع حياتهم هدرا بسبب عدم التغيير، الإنسان إذا أكل أكله واحدة يوميا لمدة أسبوع سيزهق و"يطفش" ويعترض. حتى ولو كان الطعام من فندق الخمسة نجوم، النفس البشرية تواقة دائما إلى التجديد والتغيير، وحصرها في وظيفة واحدة لسنوات طويلة حكم سري عليها بالموت البطيء.
المشكلة في قضية الوظائف أن الوظيفة تأتي بالصدفة، قد تأتي عن طريق المعرفة أو الوساطة أو التعيين الحكومي، أو الجهد الشخصي ، ليست هناك معايير موضوعية أو علمية لتقلد الوظائف. فلا يوجد نظام إداري يكفل وضع الموظف المناسب في المكان المناسب، الأمر يتسم بالفوضى، وكل شخص يبحث عن وظيفة، والحظ في معظم الأحيان هو الفيصل، الحظ هو الذي يدفع شخصا للعمل في مهنة مرموقة، ويدفع آخر للعمل في مهنة متواضعة.
لا وجود للكفاءة في الموضوع. حتى لو اشترطت بعض الجهات الكفاءة، لا يوجد ضامن لتقدم الكفء لهذه الوظيفة، ولا ضمانات أصلا لمعرفة الكفء بأن هناك وظيفة تطلبه.
إذا أجرينا دراسة بحثية عن الوظائف ومدى ملائمتها لقدرات الموظف، ستكتشف أن معظم الموظفين ليسوا في الأماكن التي تلائم قدراتهم. أضف إلى ذلك مشكلة البطالة التي تجعل الأمر أكثر مأساوية . وهو واقع يدفع المرء إلى التشبث بأي وظيفة.
قد يعمل الموظف في شركة، بينما في الشركة المجاورة وظيفة أفضل ماديا ومعنويا، ولكنه لا يعلم، قد يكون مستقبلك على بعد خطوات في بناية أخرى حيث توجد شركة تطلب تخصصك النادر، دون أن تدري. الموظف والوظيفة كل منهما على عينيه عصابة سوداء، الموظف يبحث عن وظيفة مناسبة دون جدوى، والوظيفة أيضا تبحث عن الموظف الكفء ولكن دون جدوى.
لا أمل في إيجاد نظام إداري مبتكر للتوظيف يضمن وجود الموظف الكفء في المكان المناسب ، لأننا حتى لو اخترعنا نظاما سحريا يضمن تحقيق ذلك، فإن النفس البشرية المريضة ستتحرك، وستتدخل الأهواء وعوامل التعصب والتحيز والمحاباة . فيخصص الموظف الكبير الوظيفة لقريب له ، ويعين الزوج زوجته، والمدير ابن خالته، "الوساطة والمحاباة والمحسوبية" سمات ثقافية عربية ضاربة في الشخصية، من الصعب القضاء عليها، وهي أحد الأسباب الرئيسية لوجود الأدعياء والجهلاء ومتواضعي القدرات في وظائف لا يستحقونها، وهي في النهاية السبب في تخلف المجتمع اقتصاديا واجتماعيا.
لذلك لا مفر من أن تبحث بنفسك وتتحرك للبحث عن فرصة أفضل. لا نعني بذلك أن تترك وظيفة كل أسبوع، كما يفعل بعض الشباب المترف الباحث عن وظيفة "مدير"، ولكن ما أعنيه هو البحث الواعي الهاديء عن فرصة أفضل من خلال التواصل مع الشركات والمؤسسات ذات العلاقة بعملك.
نقطة أخرى وهي السعي، فالسعي فضلا عن أنه أمر إلهي . فإنه مفيد عمليا ونفسيا، وقديما قالوا "المحاولة نصف النجاح"، والصياد الذي يطلق رصاصات عشرة ، يمكن أن تخيب رصاصة وثانية وثالثة، ولكن حتما ستصيب واحدة الهدف.
الكثيرون يقضون في أعمال واحدة عشرة أو عشرين سنة، ويعتبرون ذلك علامة نجاح، بينما ذلك في الحقيقة علامة فشل، وعندما يحين موعد خروجهم على المعاش، لا يحصلون في أفضل الأحوال إلا على شهادة تقدير ودرع من الصفيح. وذكريات مرتعشة يقوم باجترارها لأصدقاء المقهى. ولكن السؤال الحاد .. العمر كم عشرين سنة في العمر..؟.
الناجحون في الحياة هم من يتحركون، ويتفاعلون، ويبحثون، ويسعون للأفضل..، فإذا حققوا خطوة، سعوا لتحقيق أخرى، والصياد الماهر لا يلقي الشباك كل عام، ولكن يلقيها كل يوم ليحصد دائما على الصيد الوفير.