لا أعرف ما سبب إقبال الأطفال على رسومات التلوين، بمجرد أن يجد الطفل رسما أبيضا جاهزا للتلوين يصرخ من الفرح، ويقبل عليه بكل جوارحه، يمسك اللون ويفكر، ثم ينكفيء على الورقة، ويرسم بإخلاص منقطع النظير، في الأمر حاجة نفسية، فالطفل في هذه السن يكون مفعما بالخيال، والتلوين يساعده على تنمية هذا الخيال.
في هذه السن الغضة يكون الطفل لم يزل عقله لم ينشغل بعد بالأفكار والموضوعات والهموم، حيث يتصاعد التخيل إلى مداه، ويكون التلوين وسيلة للتعبير عن الرأي، والتحليق عبر عوالم من الدهشة والفرح..
"التلوين" يحول رسما أبيضا لا حياة فيه إلى عمل ينبض بالألوان. يحول واقعا أجردا خاليا من مقومات الحياة إلى واقع جمالي مفعم بالحرية والصدق. من هنا كان التلوين بمفهومه البسيط عمل إيجابي، ويمكن أن يكون تدريبا نفسيا على التفاعلية، والمساهمة في خدمة الناس والمجتمع، ونشر روح الجمال.
ميزة أخرى للتلوين وهي أنه أقرب الوسائل لتعلم الرسم والفن، فالطفل عندما يمسك بالقلم ويلون تخطيط لرسومات من الطبيعة وأشخاص وغيرها، فإنه بطريقة تلقائية يتعلم الرسم .
أضف إلى ذلك ما يزرعه التلوين في الطفل من معاني الانتماء، لأن الرسومات التي يرسمها الطفل ويلونها وينمقها ، سوف ترتبط في ذهن الطفل ووجدانه لدرجة تدفعه إلى الانتماء لها والحفاظ عليها.
التلوين ينمي قدرة الطفل على التخيل والتصور والتفكير، فالشجرة يجب أن يكون أخضر، والسماء لونها أزرق والناس لونهم بني، والطفل هنا يقدم الصورة المثلى المنزهة عن التشويه، وفي ذلك ترسيخ للعالم المثالي الفاضل الذي يتوق إليه، والذي يجب أن يحافظ عليه.
مسؤول الحي لو تعلم من البداية قيمة الجمال لما ترك أكوام القمامة منتشرة في شوارع الحي الذي يعمل به، والشاب لو تعلم قيمة الحفاظ على الممتلكات العامة، لما قطع كراسي وسائل النقل العامة للاستيلاء على الإسفنج الخاص بها لتحويلها إلى كرة شراب، والناس لو تعلمت قيمة الحفاظ على البيئة لما حطمت هذه البيئة ولوثتها بشتى أنواع الملوثات.
ولكن التلوين الذي تربينا عليه في الطفولة اختفى من المدارس، وبعد أن كان الأطفال في الماضي يستلمون كتبا خاصة بالتلوين وتحسين الخطوط ضمن الكتب الدراسية، وكان التلوين من أبجديات حصص "التربية الفنية" ، ظهرت برامج تقنية للتلوين على الكمبيوتر، تستهوي الأطفال الجالسين أمام الكمبيوتر 24 ساعة، واختفى التلوين اليدوي، وتحول إلى نشاط تطوعي تقدمه قلة من المدارس، وبذلك فقدنا التلوين ومزاياه الفريدة.
وبذلك وجد الطفل نفسه أمام تيارات هائلة من المغريات الترفيهية تتجاذبه، وتحوله إلى آلة، وهو ما يمكن أن نسميه "الترفيه الملوث"، فهناك ألعاب الكمبيوتر والفيديو جيم والبلاي استيشن والبي إس بي، و وي في ، ووسائل الترفيه التقنية الحديثة التي تضفي التسلية والمرح نعم، ولكنها توقف في الطفل ملكة التفكير والتخيل والبحث.
نحن بحاجة إلى إعادة التلوين إلى مدارس رياض الأطفال، والمراحل الابتدائية، واستخدامه ليس للترفيه فحسب، ولكن في غرس العادات الحسنة، والتي تتعدد مظاهرها مثل نشر الجمال والحفاظ على الممتلكات العامة، ونظافة البيئة وبناء المجتمع ، والانتماء، ونشر إحساس الجماعة.
لو أملك لحولت "التلوين" إلى فن عام وغرض فني خاص، من خلال تطوير أشكاله وأساليبه والأدوات المستخدمة فيه، ونشر اللوحات الجمالية التي يمكن أن يكون تلوينها الجديد والمبتكر هواية جديدة يمارسها الشباب، والتطوير هنا ممكن، قد بدأ باالفعل، حيث شاهدت في أحد المولات التجارية ركنا للتلوين يقدم رسومات جديدة يتم تلوينها بطريقة مبتكرة، وذلك باستخدام ألوان على هيئة بودرة، ويقوم الأطفال بتمرير المساحة المطلوب تلويتها ببودرة بلون معين، وتلوين مساحات أخرى بلون أخر من البودرة، ليظهر الرسم في النهاية ملونا بألوان فسفورية جميلة..
التلوين تدريب وتجريب على التفكير والتخيل والحلم، ونقش للعادات الإيجابية، ودرس للعديد من القيم الإنسانية، وهو بروفة أولية تعلم قيمة الجمال ، وكيف نحول الواقع من واقع فارغ بلا مضمون إلى واقع جميل ينبض بالحياة.